Thursday, July 9, 2009

جنيف 2020 - قصة قصيرة



النص الذى نشرته الدستور اختصر القصة بشدة نظرا لضيق المساحة..هذا هو النص الكامل:

قمة جنيف 2020

كل شيء كان يبشر بقمة عربية غير عادية هذه المرة..منذ زمن بعيد لم يجتمع السادة أصحاب الفخامة والجلالة والسمو معا بأنفسهم دون أن يرسلوا وزيرا للخارجية يمثلهم أو سفيرا ينوب عنهم..هذه المرة جاء الكل ناسين خلافاتهم واختلافاتهم من أجل قمة عربية جديدة في كل شيء، ومن أجل هدف واحد اتحدت عليه واحد وعشرين دولة عربية في مؤتمر واحد-.كل الدول العربية عدا موريتانيا -حظي باهتمام إعلامي عالمي زاد الاهتمام العربي ذاته!

بدأت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر بكلمة للأمين العام لجامعة الدول العربية..نعم للأمين نفسه الذي ترأس الجلسة وليس رئيس الدولة المضيفة كما جرت العادة، ولهذا سبب وجيه جدا..أن القمة لم تستضيفها إحدى العواصم العربية كما هو معمول به منذ اخترع العرب مفهوم مؤتمر القمة ونوعوا في مفردات الشجب والتنديد والإدانة، لكن هذه القمة الاستثنائية عقدت فى مدينة جنيف في سابقة هي الأولى من نوعها..ولهذا قصة!

الذي حدث أنه خلال اجتماعات وزراء الخارجية العرب في القاهرة تحضيرا لمؤتمر القمة العاجل الذي دعت إليه الدول الأعضاء، كان مقررا أن تستضيف نواكشوط العاصمة الموريتانية القمة المقبلة وفقا للترتيب الأبجدي المعمول به، لكن هدف المؤتمر ومناداة بعض الأعضاء بتعليق عضوية موريتانيا جعل البعض يجهر برفضه التام عقد القمة فى نواكشوط، واقترحت مصر والأردن أخذ أصوات الأعضاء على ذلك، فصوت الكل ضد استضافة موريتانيا للمؤتمر، مما جعل الصحفيون العرب يتنبؤن بما يدور في أذهان العرب تجاه موريتانيا وبالقرارات العظيمة التي يوشكون على اتخاذها ضدها –والسبب سنعرفه لاحقا.

وطلب الأمين العام من الأعضاء التقدم بالترشيح لاستضافة القمة المقبلة، فتقدمت مصر وقطر للترشيح..جرى التصويت وتساوت الأصوات بعدما امتنعت بعض الدول عن التصويت..أعاد الأمين العام التصويت فتساوت الأصوات مرة أخرى..طلب الأمين من إحدى الدولتين التخلي عن ترشيحها فتمسكت كل منهما بموقفها..تدخل وزير الخارجية المصري وقال أن مصر أولى باستضافة القمة بحكم زعامتها وريادتها واحتضانها مقر الجامعة العربية، فهاج الوزير القطري وقال أن الريادة المصرية مجرد تاريخ وأن دول الخليج بزعامة قطر قد رفعت راية الريادة..احتدم النقاش وطلب الأمين من الأعضاء أن يرشحوا دولة أخرى لاستضافة القمة، فانسحب الوزير القطري غاضبا وبينما نهض الوزيرين السعودي والبحريني خلفه يستبقيانه أعلنت مصر تمسكها باستضافة "هذه القمة الخطيرة"، وقال الوزير المصري أن انسحاب زميله القطري دليل على ضعف موقفه!

طالت الجلسة ولم يستقر الأعضاء على رأى موحد، مما جعل الأمين العام فى موقف لا يحسد عليه والصحفيون خارج القاعة يتساءلون عن سر امتداد الاجتماع لأكثر من أربع ساعات، وتسرب للقاعة خبرا بأن قناة الجزيرة القطرية أذاعت أن الوزراء العرب عاجزين عن اختيار مدينة لاستضافة المؤتمر- خمن الكل مسربه طبعا، الأمر الذي أشعل غضب الأمين العام وجعله يصيح في الوزراء بكل ما يتفجر داخله من ثورة:"احنا مش بنهزر هنا..القمة هتتعمل هتتعمل حتى لو عملناها في جنيف"!

وما إن انتهى الأمين العام من ثورته، حتى رأى الوزير الأردني يرفع يده طالبا الإذن بالكلام، وسط ضوضاء عمت القاعة من همسات الحاضرين و أحاديثهم الجانبية اعتراضا على لهجة الأمين العام الغاضبة..طلب الأمين من الحاضرين الصمت التام ثم أذن للوزير الأردني بالحديث، فابتسم الوزير فى هدوء وقال:"أنت قلتها يا رجل..ليش ما نسوى قمتنا في جنيف؟"

كانت الفكرة جديدة تماما..أخذ الأمين العام الأصوات فى حذر، وقد وجده حلا سحريا ينهى الخلافات العتيدة، ففوجىء بالكل يصوت للاقتراح الأردني "الجهنمي"-كما وصفه الوزير اللبناني، وعلق الوزير التونسي:"هذا الاجتماع تاريخي يا رفاق..لقد اتخذنا قرارا هو الأول من نوعه"..وخرج الأمين العام من القاعة غارقا في العرق حاملا أوراقا مبعثرة ليواجه كاميرات الفضائيات ويعلنها واضحة صريحة للعالم أجمع..القمة العربية القادمة في جنيف!

وكما توقع الكل كانت القمة غير عادية حقا، إذ أعلن الملوك والرؤساء العرب الحضور بأنفسهم مع وفود على أعلى مستوى إلى جنيف، وحضرت كل الدول العربية الجلسة الافتتاحية القمة بما فيها موريتانيا ، لكنها ما لم لبثت أن انسحبت من الجلسة الأولى بعد الهجوم الحاد الذي لاقته من كل الدول الصديقة خلال كلماتها الافتتاحية، ورحب الكل بانسحابها باعتبارها سبب الأزمة الدبلوماسية التي وقعت بين الدول العربية وإسرائيل حينما وقف الرئيس الموريتاني الجديد "المنتخب" يتلو قصيدة "لا تصالح" لأمل دنقل، و يعلن المعاداة التاريخية بين العرب والإسرائيليين وأن العرب جميعا يجب أن يقطعوا فورا علاقاتهم مع إسرائيل عقب العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة والمذبحة التي راح ضحيتها ألف شخص دفعة واحدة حينا قصف الطيران الإسرائيلي ملجأ للمدنين، الأمر الذي أثار غضب الحكومة الإسرائيلية وجعل رئيس الوزراء الإسرائيلي يقف يطالب الدول العربية الصديقة باتخاذ موقفا عقابيا مناسبا لموريتانيا، باعتبارها الدولة العربية الوحيدة التي ترفض التطبيع مع إسرائيل حتى هذا اليوم!

وكان ما كان..لا يمكننا أن نغفل هنا أن السادة أصحاب الجلالة والفخامة والسمو كانوا أصلا "مفقوعين"من موريتانيا منذ أشهر طوال، خاصة بعد الانتخابات الموريتانية الأخيرة التي ضربت بها الصحافة العالمية مثالا رائدا للديمقراطية في دول العالم الثالث، وجعلت "اللى يسوى وميسواش" –من أمريكا وحتى ترينداد وتوباجو - فى كل محفل دولى يدعو الدول العربية إلى الاقتضاء بالتجربة الموريتانية، وشجع الصحافة المعارضة في الدول العربية بدورها على الخوض في أعراض الأنظمة الحاكمة، وكتب رئيس تحرير كبرى صحف المعارضة في مصر قائلا:"لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون موريتانيا"!

وانتهت القمة التاريخية بالقرارات التي توقعها الجميع وبما أملته عليهم مصالحهم مع إسرائيل..صحيح أن أغلب الأعضاء طالبوا خلال اجتماعاتهم بتعليق عضوية موريتانيا باعتبار أن تصريحات رئيسها "المنتخب"كادت تهدد "العلاقات الدبلوماسية العميقة بين العرب وإسرائيل"، لكن البيان الختامي للقمة اكتفى بشجب موقف الحكومة الموريتانية المتخاذل تجاه تصريحات رئيس الدولة، والتنديد بالتصريحات "المعادية السامية" الموجهة لدولة "حليفة وصديقة"، وإدانة السياسة غير الحكيمة لموريتانيا التي تهدد "المصالح القومية العربية" مع إسرائيل..وانتهى البيان الختامي بفقرة قصيرة تدعو إسرائيل إلى تخفيف حصارها على قطاع غزة والتوقف عن استهداف المدنيين الفلسطينيين..والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الغريب أن كبرى الصحف الموريتانية رحبت فى اليوم التالى بقرارات القمة العربية، وكتب رئيس تحريرها يؤكد أن قمة جنيف حققت نجاحا لم يسبق لأي قمة عربية من قبل، غير أنه أخذ على القادة العرب أنهم لم يتفقوا بعد على مكان القمة العربية القادم،ونصحهم ألا تقرب قممهم القادمة أى عاصمة عربية حتى تتوالى مسيرة النجاح،وعلى ذلك فأفضل مكان للقمة القادمة –والكلام لا يزال لرئيس التحرير الموريتاني- هو تل أبيب!

علاء مصباح

السبت 28 يونيو

منشورة فى جريدة الدستور- الأربعاء 7 يوليو 2009