Thursday, April 30, 2009

حكايات من جوه على بص وطل: الجزء الأول

في جمهورية بساطة.. وداعاً للحضارة وأهلاً بالطبيعة!

لم تكن المرة الأولى التي أزور فيها سيناء، لكنها كانت أكثر المرات إمتاعاً.. كل ما في سيناء من جمال وسحر الطبيعة وروعة السماء وصفاء المياه يمكنك أن تجده بسهولة في "بساطة"..

ما سمعته من أصدقائي الذين ذهبوا إليها من قبل أنها أفضل مكان في مصر للاسترخاء والاستمتاع بالطبيعة، وكنت أتعجّب من هؤلاء الذين يشدّون الرحال إلى هذه القرية البعيدة الواقعة على حدود مصر الشرقية، مختارين إياها عن أي مكان آخر.. وظلّ السؤال الذي يطاردني: ما الذي يُميّز بساطة عن غيرها؟!

جاءت فرصة زيارة بساطة ضمن برنامج قيادي نظمه اتحاد الطلبة في الجامعة، وأعلن أن المشرفين عليه طاقم متميّز من متخصصي التنمية البشرية من شركة فودافون، وتقدّمت للاشتراك مع عدد كبير من أصدقائي، وخُضنا مرحلة المقابلة الشخصية وتم قبولنا.. وبدأت الاستعدادات لبساطة!

كانت ثمة قائمة بمتطلبات الرحلة.. لابد من ملابس ثقيلة جدا.. كشّاف لأن الظلام يسود تماماً مع غروب الشمس.. حقيبة نوم؛ لأنه لا يوجد أسرَّة هناك.. وكان واضحاً أنه لا مجال لأي نوع من أنواع الرفاهية.. بساطة هي فعلاً البساطة بعينها.. لا مزيد من الحضارة من فضلك.

في السادسة صباحاً في ميدان التحرير تجمّعنا.. أخذتنا الحافلة إلى ميدان الرماية حيث انضم إلينا باقي الزملاء، ثم بدأت الرحلة الطويلة.. طريق القاهرة - السويس.. نفق الشهيد أحمد حمدي.. الرحلة في قلب سيناء إلى نويبع.. ثم أخيراً انطلقنا مجاورين لمياه خليج العقبة، وقد لاحظنا أننا دخلنا المجال الجوي للمملكة العربية السعودية، إذ بدأت هواتفنا المحمولة تلتقط شبكات الهاتف في المملكة، بل استقبل هاتفي أيضا رسالة ترحاب: "أهلا بك في المملكة العربية السعودية.. تمتع معنا بخدمة التجوال!".. وبعد دقائق انحرفت بنا الحافلة إلى القرية الجميلة.. وهكذا رأينا اسم "بساطة" على اللافتة الكبيرة المعلّقة في بدايتها.

على بعد 45 كيلومترا من طابا و25 كيلومترا من نويبع تقع قرية بساطة -على بعد 450 كيلومترا من القاهرة- تطل على خليج صغير في منطقة رأس برقة من خليج العقبة، كانت من أولى المشروعات السياحية التي أُنشِئت في هذه المنطقة عام 1986، أسسها المهندس المصري شريف الغمراوي.

وعلى مرمى بصرنا كانت تمتد "بساطة".. أكواخ ومساكن أسمنتية صغيرة.. البحر -خليج العقبة- في مواجهتنا تماما، تتألّق مياهه تحت أشعة الشمس الذهبية، وفي الجانب الآخر من الخليج تمتد سلاسل الجبال التي تبدو باهتة من بعيد .

وكما هو متعارف عليه في مجتمع بساطة، تم استقبالنا في الكوخ الرئيسي -يسمّونه صالة الاستقبال (الريسبشن) كأننا في فندق وليس في كوخ مصنوع من خشب البوص- وجلسنا أرضاً جميعاً؛ ليستقبلنا المهندس شريف الغمراوي بنفسه؛ ليحكي لنا قصة المكان والزمان ويُعرّفنا على قوانين هذا العالم الفريد.

وإذا كنت قد شاهدت مسلسل "سنبل" الشهير -بطولة الفنان محمد صبحي- فأنت سوف تعرف قصة بساطة، كما قدّمتها الدراما المصرية عن القصة الحقيقية التي عاشها الغمراوي بنفسه.. القصة تعود إلى أوائل الثمانينيات مع محاولة الهروب من القاهرة وزحامها الخانق؛ لإقامة مشروع سياحي في الصحراء، وكانت سيناء تودّع الاحتلال الإسرائيلي بعد تفعيل معاهدة السلام وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى خليج العقبة تم شد الرحال، وبعد كفاح مرير حصل على قطعة أرض مساحتها 120 ألف مترا؛ ليبدأ عليها تنفيذ حلمه، لكنه فوجئ بالبدو يطالبونه بثمن أرضهم التي يعيشون عليها منذ مئات السنين، يُواجه تهديدات بالقتل إذا لم يستجِب لمطالبهم.. وبعد مناقشات ومجادلات عقدوا اتفاقاً مع البدو أن يساعدوا في بناء القرية السياحية، القائمة على مبدأ السياحة البيئية Ecotourism، التي تقتصد في الماء والكهرباء، وهكذا بدأ الحلم يتحوّل إلى حقيقة في قلب صحراء سيناء.

ولأن بساطة تُعتبر ملكية خاصة، فيحقّ لصاحبها أن يضع دستور المكان؛ كي يحافظ عليه كما صنعه، وهو الدستور الذي يُخبره المهندس بنفسه لزوار القرية.. القاعدة الأولى ممنوع المساس بالشعاب المرجانية أو أي نباتات أو كائنات تسبح في مياه البحر.. ولأنه مصري شرقي أصيل، فهو يمنع أيضاً الرومانسية الشديدة على البحر حتى بين الأجانب، كما أنه يمنع التعري تماما، والخمور والمخدرات ممنوعة أيضاً.

القانون الأخير الذي أثار إعجابي بشدة أنهم يمنعون الإسرائيليين من زيارة بساطة، وهو القرار الذي اتّخذه منذ اندلاع انتفاضة الأقصى الثانية عام 2000، وواجه المشروع ضغوطاً أمنية لاسيما أن هذه المنطقة تتمتع بجاذبية كبيرة للسياح الإسرائيليين، إلا أن القرار لايزال مطبّقاً بشكل يُثير الإعجاب.

وبعد هذه المقدّمة السريعة، تعالوا نبدأ جولتنا في بساطة:

هذا الكوخ الذي نجلس على أرضيته هو اللوبي أو الصالة الرئيسية.. مصنوع كغيره من الأكواخ من خشب البوص، ويتكوّن من الغرفة الرئيسية وغرفة أخرى داخلية تتناثر فيها الوسائد -يبدو أنها قاعة الاجتماعات- وعلى اليمين يوجد المطبخ.. للمطبخ بدوره نظام فريد، إذ يُمكنك أن تدخله وتعد بنفسك ما تريد أن تأكله كأن تصنع كوباً من الشاي أو القهوة أو تأخذ عصيراً من الثلاجة أو حتى تعد طبقاً من الفول بالزيت الحار، وقد تطلب من عم عبده أن يصنع لك بيتزا خاصة أو يطهو لك بعضاً من قطع الخبز الفلاحي رائعة المذاق، وكل ما تأخذه من المطبخ تسجله بنفسك في ورقة باسمك في مدخل المطبخ؛ لتحاسب عليه قبل مغادرة بساطة.. الأمر يعتمد على أمانتك أنت فحسب، وما مِن مراقب يُحاسبك ولا يسألك: "من أين لك هذا؟!"

بعد المطبخ توجد الغرفة البدوية المميزة -من اسمها- بتواجد كل ما هو على الطراز البدوي، وهي أنسب مكان للاسترخاء على وسائده، والجلوس للنظر إلى البحر المواجه لها مباشرة والتأمّل في زرقة السماء وصفائها نهارا، أو في النجوم والقمر والفلك الأسود في هدوء الليل الشديد في بساطة.

والآن دعنا نمضي خارج اللوبي حيث يتناثر 20 كوخاً و8 فيلات صغيرة على مساحة واسعة على الرمال.. الأكواخ المصنوعة من الغاب مخصصة للفتيان والرجال، وأغلبها يتكوّن من طابق واحد وإن كان قليل منها من طابقين، أما الفيلات -لا تدع اسمها يغرّك- فهي مجرد مساكن طينية شديدة البساطة وهي مخصصة للفتيات.

ثمة حمامان رئيسيان أحدهما في أقصى اليمين، ولا تتوافر فيه المياه الساخنة، والآخر بجوار المسجد الصغير في أقصى اليسار جوار الجبل، ويمكنك أن تأخذ فيه حماماً ساخناً، لكن احذر فالماء ساخن جدا ولا يمكنك خلطه بالماء البارد للأسف!

كما تتواجد محطة لتحلية مياه البحر، وبرج للحمام ومدرسة صغيرة، وصوبة زراعية ومزرعة كبيرة تربّى فيها الماعز والماشية.

ادخل معي الكوخ وحاول أن تنسى غرفة نومك في بيتك تماما فلا مجال للمقارنة.. إننا هنا في بساطة حيث البساطة هي اسم اللعبة.. الكوخ مفروش من الداخل بالحصير والسجاد المصنوع من بقايا خشب معروف باسم "القصاقيص"، وكما ترى فلا توجد أي أسرة تنام عليها ولا حتى دولاب تضع فيه ملابسك.. لهذا كان ضروريا أن تجلب معك حقيبة نوم تضعها هنا أو هناك؛ كي تحشر نفسك داخلها وتأخذ واحدة من الوسائد القطنية وتضع رأسك عليها.. الجو بارد ليلا طبعا -إنها بيئة صحراوية يا صديقي- فلا تنسَ أن تتأكد أن حقيبة نومك ثقيلة بما يكفي.. ماذا إذن عن الإضاءة؟.. كما لاحظت لا تتوافر الكهرباء سواء في الكوخ الرئيسي، أما باقي الأكواخ فلا يوجد بها أي مصدر للإضاءة، لذلك عليك أن تعتمد على ضوء النهار حتى إذا أرخى الليل ستائره، فعليك أن تُشعل كشافك لترى معالم كوخك وتتحرّك داخل بساطة كلها.

أمام كل كوخ صندوق صغير من البلاستيك مملوء بالماء؛ كي تنظّف فيه حذاءك من الرمال قبل دخولك الكوخ، فالمحافظة على نظافة كل شبر من بساطة قاعدة في غاية الأهمية.. الأكواخ تطل مباشرة على البحر، بينما تقع خلفها الفيلات الصغيرة التي تتميز بأثاثها الخشبي البسيط، وتُحيط بها النباتات من كل جانب.

كل شيء في بساطة مميز وبسيط لا يتغيّر مهما مرت السنون.. "بساطة" التي بناها الغمراوي في الثمانينيات لا تختلف عن بساطة اليوم بعد سنوات من بداية القرن الحادي والعشرين.. بساطة نفسها لا تتغيّر طالما ظلت القاعدة رقم واحد هنا هي الحفاظ على جمال الطبيعة وهجر الحضارة وقسوتها.

المقال هنا:

http://www.boswtol.com/5gadd/nsahsah_245_014.html

مقال نانسى حبيب عن "هذه هى أمريكا" فى بص وطل

حكايات طالب مصري مع العم سام بنكهة هوليودية وعيون مصرية!

كتب كثيرة -لم يكن أولها كتاب رفاعة الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" ولا آخرها كتاب بيرم التونسي "السيد ومراته في باريس"- تناولت هذه الفكرة، أن يسافر الكاتب إلى بلد ما فينبهر بها ويحاول أن ينقل تجربته في كتاب. أما عن الكتب التي تتحدث عن أمريكا فهي أيضا كثيرة ومتنوعة.. منها الساخر ككتاب محمود السعدني "أمريكا يا ويكا" ومنها السياسي ككتاب محمد حسنين هيكل "الإمبراطورية الأمريكية".. فما الذي يميز هذا الكتاب إذن عن غيره؟

أولا.. أنه يرصد الحياة في أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر، أما ثانيا وهو الأهم فإن علاء مصباح -الكاتب- هو أحد هؤلاء البؤساء المحظوظين الذين أصابتهم عدوى الأدب كما قال عنه د. أحمد خالد توفيق في مقدمة الكتاب، لذا فإنه لا يكتفي هنا برصد ما يحدث من حوله وإنما يرويه لك بحس أدبي يجعلك تشعر بأنك تشاهد فيلما هوليوديا، يقدم لك المعلومة والمتعة ويمزج كل هذا بسخرية محببة يتمتع بها.

تجربة علاء التي يقدمها من خلال الكتاب فريدة، فهو طالب بالجامعة الأمريكية سافر إلى الولايات المتحدة لمدة أربعة أشهر وهي مدة ليست بالقليلة لكنها قد تمر سريعا على شخص آخر أما بالنسبة لعلاء فإنه أحسن استغلال كل ثانية في الشهور الأربعة. يقول الكاتب: "بين نيويورك وواشنطن وبوسطن ونيوجيرسي قضيت أيامي في الولايات المتحدة الأمريكية.. من قمة الإمبيرستيت رأيت نيويورك أشهر وأغنى مدن العالم.. جوار البيت الأبيض ركضت مع آلاف الأمريكيين متظاهرا ضد بوش في الذكرى الخامسة لبدء الحرب على العراق.. في قاعات مقر الأمم المتحدة تعلمت السياسة كما تقدمها القوانين الدولية التي طالما أضاعت حقوق العرب.. أمام نقطة الصفر أو مركز التجارة العالمي سابقا سرت أتلمس الجرح الأمريكي العميق.. وبين قاعات المحاضرات في جامعة نيوبولتز خضنا في كل القضايا المثيرة للجدل من الإرهاب والإسلاموفوبيا حتى العنصرية والشذوذ الجنسي وكل ما يشغل دماغ المواطن الأمريكي أو دماغي كعربي".

هكذا يُلخص علاء تجربته المغايرة ويدخل بنا ذلك العالم الغامض في ثمانية فصول تضمنها الكتاب، يبدأها بـ"حكايات نيوبولتز"، وكيف كانت البداية في مطار جون كينيدي مبشرة جدا حيث كانت أول طائرة رآها تحمل علم إسرائيل! ومن المطار انتقل إلى الجامعة وهنا حاول أن يتأقلم مع كونه صار أجنبيا لكنه كالعادة وقع في الفخ "أذكر أن أول شيء اشتريته كان كارتا للاتصالات الدولية كلفني عشرة دولارات وهو ثمن باهظ حقا -فيما بعد عرفنا أن هذا الكارت يخدعون به السياح مثلنا- واعتدنا بعدها على شراء كروت الاتصالات الرخيصة بدولارين أو دولارين ونصف من محطة بنزين قريبة يملكها أردني".. الضحك على السياح ليس في مصر فقط إذن!

وبدأت الدراسة.. وكانت المفاجأة أن عميد قسم إدارة الأعمال بالجامعة كان إيرانيا مسلما شغوفا بمصر إلى درجة الجنون يضع في مكتبه صورة لتوت عنخ آمون ونموذجا مجسما للأهرامات، وكان هذا هو الدرس الأول الذي تعلمه علاء في أمريكا.. "لاحظ معي أن الرجل إيراني، وإيران هي العدو اللدود لأمريكا، وبرغم ذلك صارت للرجل هذه المكانة الحساسة في الجامعة.. هذا البلد لا يميز بين الجنسيات والأعراق.. إتقانك لعملك وحده هو الدافع لأن تترقى مهما كان عِرقك أو جنسك أو ديانتك".

كانت المشكلة الأكبر أمام علاء أن الأمريكان يتصورون مصر عبارة عن صحراء جرداء تجوب فيها الجمال بجوار الأهرامات كما يتصورون المصريين يعيشون في الخيام ويتحدثون بالهيروغليفية! "يتصورونك في البداية لا تعرف شيئا عن أمريكا، لا تعرف ميل جيبسون ولم تسمع عن مايكل جاكسون ولا تملك بريدا إليكترونيا.. حينها تحتم عليك كرامتك أن تبهره بقدراتك الخارقة في استخدام الإنترنت وتحكي له أحداث آخر أفلام توم كروز -الذي لم يشاهده هو- ثم تدندن أمامه بأغنية لإنريكي إجليسياس قبل أن تبدي ضجرك من خطابات هيلاري كلينتون وتبدي إعجابك بباراك أوباما.. حينها سيقتنع زميلك الأمريكي تماما أنك قادم من بيئة لا تختلف كثيرا عن بيئته وأنك على الأقل تنتمي مثله للقرن الحادي والعشرين!"

بعد تجاوز صدمة البداية يأتي الفصل الثاني ليجعلك الكاتب تعيش معه "أيام في الأمم المتحدة". في الطابق الأول من مقر المنظمة تجد ركنا خاصا بالهولوكوست.. أي زائر للمبنى يشاهد فيلما يروي له عن تلك المذبحة التي ارتكبها هتلر حارقا ستة ملايين يهودي في أفران الغاز! الغريب أنك ستجد في نفس الطابق "الميتداشن رووم" أو غرفة التعبد وهناك يمكنك أن تجد مكانا لتصلي به الظهر.

بعدها يمكنك التنقل إلى الطابق الثاني لتجد نفسك وجها لوجه أمام قاعة مجلس الأمن، لكن هذا لم يكن كل شيء فمشاكل العالم هناك تبدو أكثر تعقيدا.. "إذا كنا نحن العرب لا نرى أمامنا سوى قضية فلسطين وغزو العراق وأفغانستان، فإن العالم أكثر قذارة من ذلك بكثير.. عندما تقرأ عن مذابح الصرب في البلقان، وتشاهد فيلما تسجيليا عن مذابح رواندا، وتتعمق في دراسة مذابح دارفور، ثم تخوض في غمار الحرب في الكونغو، حينها تدرك جيدا أن مذبحة دير ياسين وبحر البقر ليست أكثر مذابح التاريخ دموية كما تصورت ذات يوم.. بعض البشر أكثر قذارة من قتل ألف طفل في مدرسة ابتدائية.. هناك من يقتل 800 ألف بشري في أقل من شهر.. حدث ذلك في رواندا! هناك من يقتل ثمانية آلاف رجل مسلم في يوم واحد حدث هذا في البوسنة".. ثم تنتهي الجولة بتساؤل هام.. كل يهودي في هذا العالم يعرف أن هنالك ستة ملايين يهودي قُتلوا في محارق الهولوكوست بغض النظر عما إذا كانت تلك مزاعم يهودية أو حقائق تاريخية.. كم منا يعرف أن هنالك ثمانية آلاف رجل مسلم قُتلوا في يوم واحد؟

في الفصل الثالث "عزيزتي نيويورك" تدخل عالما جديدا، هذا العالم هو أمريكا التي نعرفها.. "مثلما لا يعرف أغلب الأمريكيين عن مصر سوى الأهرامات والصحراء والجمال فنحن أيضا نختزل أمريكا كلها في تمثال الحرية وناطحات السحاب وأفلام هوليود، وهو ما تقدمه لك نيويورك سيتي على طبق من فضة لكل سائح يريد أن يرى أمريكا التي يتخيلها".

تتجول هنا من المتاحف إلى الإمبيرستيت إلى تمثال الحرية وصولا إلى ما كان يُعرف بالوورلد تريد سنتر.. مثلا في متحف مدام توسو ستقف لتلتقط صورا مع المشاهير من محمد علي كلاي وأنجيلينا جولي إلى جورج بوش وياسر عرفات.. وحين تترك المتحف ستجد أمامك مبنى النيويورك تايمز أشهر صحف العالم. ومن فوق الإمبيرستيت أعلى ناطحة سحاب في العالم، ستقف لتتأمل نيويورك كلها.

ستبقى المشكلة التي تقابلك هي الطعام، لكنك ستفاجأ بعربات اللحم الحلال تقابلك أينما ذهبت في نيويورك وهي لا تقتصر على المسلمين فحسب إنما هي ملجأ كل جائع يبحث عن طعام زهيد الثمن. والغريب أنك دائما ما تجد فيها الفلافل لكنها ليست رخيصة كما قد تظن فثمن ساندوتش الفلافل لا يقل أبدا عن ثلاثة دولارات.

هناك ستصادف مصريين جاءوا إلى الولايات المتحدة بالصدفة بعد أن حصلوا على الجرين كارد وعاشوا سنين طويلة وهكذا تغيرت الأمور.. "جرين كارد وتذكرة سفر وأوراق تكتب بها شهادة ميلاد جديدة في أرض الأحلام.. تمضي خمس سنوات بالطول أو بالعرض ثم تصير أمريكيا بصفة رسمية بعد أن تحصل على الجنسية.. وحينها تكون قد صرت أمريكيا من أصل مصري".

وفي متحف الميتروبوليتان ستشعر أن قسما كاملا من المتحف المصري قد انتقل إلى هناك، أكثر من ستة وثلاثين ألف قطعة أثرية تشكّل محتوى القسم المصري هناك.. العالم كله يشاهده دون أن تعلم كيف انتقل كل هذا الكم من آثارنا إلى هناك؟!

ومن نيويورك، يأخذك الفصل الرابع إلى واشنطن.. لتكتشف أن واشنطن أفضل مدينة في العالم تتفسح فيها ببلاش! وإذا ما قررت الذهاب للتسوق فلا تندهش عندما تجد فستانا يصل سعره إلى ثلاثة ملايين دولار! هناك يمكنك أن تزور أثر واشنطن الذي يشبه المسلة الفرعونية وتزور الكونجرس قبل أن تكتشف وجود المركز الإسلامي حيث يمكنك أن تصلي الجمعة وبعد أن تخرج ستجد أمامك صلاة جمعة أخرى!.. "الخطيب الإيراني -الذي يصلي بالناس في الخارج- كاد أن يكون إمام المسجد منذ نحو ربع قرن، لكن لجرأته الشديدة في تناول قضايا الأمة الإسلامية تم عزله عن منصبه، وجيء بإمام آخر للمسجد يتحدث في أمور دينية عادية، رغم أن الخطيب الإيراني أكثر فصاحة وبلاغة وثقافة ممن سواه.. وهكذا منذ ذلك الحين صارت هناك صلاتان جمعة في نفس التوقيت.. إحداهما تدور داخل المسجد والأخرى يؤمها الخطيب الإيراني خارج المسجد بجمهوره المعجب بموهبته الخطابية".

وإذا ما ركبت المترو ستجد محطة اسمها البنتاجون.. هناك يمكنك أن تتجول بحريتك حول مبنى وزارة الدفاع بل وتلتقط ما تشاء من الصور دون أن تشاهد رجل حراسة واحدا أو لافتة على غرار "ممنوع الاقتراب أو التصوير"!

الفصل الخامس يأخذك مباشرة إلى بوسطن.. حيث تقع "هارفارد" أشهر جامعات العالم، و"سالم" مدينة السحر الأسود وستضحك كثيرا على قواعد اكتشاف ما إذا كانت المتهمة ساحرة أم لا.. حيث يتم قتل الساحرة وإلقاؤها في النهر، فإذا طفا جسدها كانت ساحرة وإذا غاص جسدها كانت بريئة.. حينها يمكنك أن تدعو لها بالمغفرة!

ومن بوسطن إلى حكايات الفصل السادس في نيوجيرسي، حيث انعقد مؤتمر رابطة الطلبة المسلمين.. الذين تربّوا ونشأوا في الولايات المتحدة ولا يُجيد أغلبهم العربية لكنهم جاءوا من مختلف الولايات للتعارف واللقاء.

وفي باترسون يمكنك أن تتناول غداء عربيا مائة في المائة.. ستجد لافتات المحلات بالعربية والإنجليزية، قوائم الطعام تتضمن ورق العنب والكباب أما الحلو فبسبوسة وبلح الشام! بل إنك ستجد هناك جرائد الإثارة التي تتصدرها صورة هيفاء وهبي!

آخر فصلين في الكتاب بعنوان "حكاياتهم" و"حكاياتنا".. يستعرض خلالهما الكاتب بسلاسة وعمق اختلاف وجهات النظر بيننا كعرب وبينهم كأمريكان، يضع يده على المناطق الشائكة ويضغط على منطقة الإصابة دون أن يتسبب في البتر، وإنما يجعلك تعيد التفكير من جديد في أشياء كنت تراها من قبل وكأنها مسلمات.. يحدثك تارة عن الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وتارة أخرى عن تليفزيون شالوم.. تلك الباقة الخاصة من القنوات التليفزيونية الموجهة للشعب الأمريكي والتي تبث برامج وأخبار يهودية طول الوقت. قبل أن يروي لك في غيظ عن ذلك الكتيب الدعائي الذي يتحدث عن الحروب العربية الإسرائيلية والذي يؤكد لك أن مصر لم تكسب قط حرب يوم كيبور (أكتوبر 1973) رغم أن المصريين يظنون ذلك! بل إنه وفي معرض تم إقامته في مبنى اتحاد الطلبة تجدهم يوزعون الفلافل على أنها "طعام إسرائيلي أصيل"!

والأمر لا يقتصر على الإسرائيليين، بل إنه في مادة الدراسات الإفريقية ستجد كتبا كثيرة تؤكد لك أن الحضارة الفرعونية شيّدها الأفارقة السود! بل وستجد بعض الطلبة يتحدثون عن اضطهاد الحكومة المصرية لأهالي النوبة والدليل "مقتل ملايين النوبيين" من أجل أهداف أنانية للحكومة وهي بناء السد العالي!

سيأخذك الكتاب في جولة ممتعة، تستكشف من خلالها أشياء عجيبة.. في أمريكا يمكنك أن تفعل ما تشاء تحت مسمى الحرية.. "تنظم محاضرة دينية عن الإسلام أو تقيم ندوة عن الهندوسية أو تعلق ملصقات ضد بوش أو حرب العراق.. إنها بكل بساطة الحرية بكل ما تعنيه الكلمة".. ستكتشف أن مصريا خدم في الجيش الأمريكي بل وفي العراق.. "هناك آلاف العرب يتطوعون سنويا في الجيش الأمريكي.. بعضهم يدخل الجيش على أمل أن يقضي فترة خدمته في الولايات، لكن الكابوس أحيانا يتحقق بعد شهور من الخدمة داخل البلاد ليجد نفسه على طائرة عسكرية أمريكية تحمله إلى بغداد.. وهنا لا مجال للتراجع.. عليه أن يثبت أنه أمريكي أولا.. يخدم جيش بلاده قبل كل شيء".. ستجد الهنود والباكستانيون يمرحون معا.. "ما أثار دهشتي للحظات هذا الجو الحميم جدا بين الهنود والباكستانيين، ولا أحد منهم يبالي بالخلافات السياسية العميقة بين الهند وباكستان، والدولتان كانتا على وشك حرب نووية عام 1998.. تصوّر شابا إيرانيا يصادق فتاة إسرائيلية.. الأمر لا يختلف كثيرا، لكن هذه هي أمريكا.. كل الجنسيات وكل الأديان وكل الأعراق في خليط واحد"!

هكذا وببساطة وبينما تمسك بالكتاب بين يديك.. ستكتشف أمريكا بكل تناقضاتها.. بكل ما فيها من تقدم وحضارة ورقي وحرية.. وكل ما فيها من ظلم وتعسف وأنانية بلا حدود.. ستكتشف أمريكا في عيون طالب مصري قضى فيها أربعة أشهر.. أمريكا التي لا يمكنك أن تتجاهلها مهما حاولت.. لأنها وببساطة.. هي أمريكا!

المقال هنا:
http://www.boswtol.com/aldiwan/nkasakees_244_02.html

Thursday, April 9, 2009

بص وطل: بيروت بيروت لـ صنع الله إبراهيم


وحده "صنع الله إبراهيم" هو القادر على أن يجمع بين الرواية والفيلم السينمائي في كتاب واحد.. وحده يستطيع أن يحشد كل هذه التفاصيل بكل هذه الدقة.. هذا هو صنع الله إبراهيم كما رأينا أسلوبه مميز في رواياته "اللجنة" و"نجمة أغسطس" و"القانون الفرنسي".

تعد رواية "بيروت بيروت" من أروع ما كتب صنع الله إبراهيم، حيث تؤرخ للحرب الأهلية في لبنان، إذ تدور أحداثها بالكامل في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، حيث البطل تائه بين الأطراف المتنازعة، لا يعرف لماذا يقاتلون بعضهم البعض؟! غارق هو في البحث عن هدفه الشخصي -إيجاد ناشر لكتابه- لكن ظروف الحرب تفرض نفسها عليه رغم أنه لا يهتم كثيرا بها.

والقصة أن البطل -راوي الأحداث- يترك القاهرة إلى بيروت في وسط أجواء الحرب الأهلية اللبنانية؛ ليبحث عن ناشر لروايته التي لا تخلو من نقد الأنظمة السياسية العربية جميعا، ويقيم عند صديق له في بيروت، يتعرّف من خلاله على مخرجة لبنانية تطلب منه أن يكتب لها سيناريو فيلمها الوثائقي، وبهذا يجد البطل عملا يقضي فيه أيامه في بيروت.

يبدو من الرواية وَلَع صنع الله إبراهيم الشديد ببيروت، كما أنه يعرف فنادقها وشوارعها وأحياءها جيدا، من خلال الوصف التفصيلي لتحركات البطل وانتقالاته بين أحياء بيروت (الشرقية والغربية)، كما لو كان الكاتب قد قام بهذه الرحلة إلى لبنان بنفسه وعاد يكتب تفاصيلها في رواية.

كالعادة يتناول الكاتب السياسة والجنس والدين -الثلاثي الخطير- بجرأته المعهودة.. أما السياسة فالرواية كلها تقدِّم لنا لمحة من الحرب الأهلية اللبنانية، العداء الطائفي بين أصحاب الأديان المختلفة في لبنان، المعاداة الظاهرة لمعاهدة السلام مع إسرائيل، تناول الأنظمة العربية جميعها بالنقد بمنتهى الجرأة، ففي مقطع من الرواية، تخاطب الناشرة اللبنانية البطل قائلة: "أنت لم تترك نظاماً واحداً من الأنظمة العربية دون تعريض".

الجنس جزء لا يتجزأ من روايات صنع الله إبراهيم، ومن قرأوا اللجنة يعرفون جرأته الشديدة في الوصف، علاقات البطل الجنسية سمة مهمة من سمات البطل، إذ تتعدد علاقاته النسائية خلال أحداث الرواية، وفي النهاية يكتشف أن الفتاة التي كان على علاقة بها ليست سوية تماما، عندما تطلب منه صديقتها أن يقطع علاقته بها؛ لأن هناك "علاقة خاصة جدا" تربط بين الصديقة وعشيقته!

الدين هو السبب الرئيسي الذي من أجله تدور الحرب الأهلية، وهو السبب الذي يُختطف بسببه البطل، عندما يتعرّض البطل للاختطاف على يد جماعة مجهولة، ويجري معه تحقيق غريب، يسألونه فيه عن ديانته، فيرفض الإجابة، ويدور الحوار الآتي:
- "ألن تذكر لي ديانتك؟
- وما علاقة ديانتي بالأمر؟
- الدين هو عنوان الشخص.. هويته.. فهو الذي ينظم علاقته بخالقه.
- إذن لا أهمية لتحديده.. كل واحد ينظم علاقته بخالقه وفقا لدينه، وفيما يتعلق بي فإن الأديان كلها عندي سواء."

كالعادة يحشد صنع الله إبراهيم عددا من الأخبار والوثائق؛ ليضع القارئ على خلفية من الأحداث التاريخية التي تدور خلالها أحداث الرواية.. قصاصات الصحف.. نشرات الأخبار.. تفاصيل تاريخية تضع القارئ على خلفية لا بأس بها بأحداث الحرب الأهلية اللبنانية.

الشيء الذي لم أحبه في الرواية -وقد تحبه أنت عزيزي القارئ- هو الوصف التفصيلي لسيناريو الفيلم الوثائقي الذي يُكلف بطل الرواية بكتابة السيناريو له، من حين لآخر يفرد إبراهيم عشرات الصفحات من كتابه؛ ليقدِّم لنا بأسلوب سينمائي مُمِل تفاصيل مشاهد الفيلم مع ملاحظات البطل عليها، وهو ما يجعل القارئ ينفصل تماما عن جو الرواية ويدخل عالما آخر هو عالم الأفلام الوثائقية، ولا يمنع هذا الراوي أن يبدي تعليقاته وآراءه من حين لآخر: "كان لدي تصور ضبابي في السابق عن الحرب الأهلية اللبنانية، مؤداه أنها حرب بين التقدميين والرجعيين يحركها الاستعمار، وأن غالبية التقدميين من المسلمين، كما أن غالبية الرجعيين من المسيحيين، لكني أدركت الآن أن الأمر أعمق من ذلك بكثير..."

في المطار عند وصوله لبيروت يسأل ضابط الجمارك البطل:
- بيروت وجهتك أم ذاهب إلى مكان آخر؟
- لا، بيروت.
- الشرقية أم الغربية؟
"أوشكت أن أجيب تلقائيا بأنها الشرقية، ثم تذكرت أن بيروت هي المكان الوحيد في عالم اليوم الذي تنقلب فيه المدلولات السياسية للأوضاع الجغرافية".

تبقى "بيروت بيروت" من أمتع ما قرأته لصنع الله إبراهيم، وهي تجمع بين السمات العامة التي تميز أسلوبه الفريد، مما يجعلها أفضل ما يمكن قراءته، إذا قررت أن تدخل عالم صنع الله إبراهيم شديد الخصوصية.

هذه هى أمريكا فى روز اليوسف

روز اليوسف - الخميس 9 أبريل 2009

Wednesday, April 8, 2009

هذه هى أمريكا فى جريدة الشروق


الشروق - الثلاثاء 7 أبريل 2009 - الصفحة الأخيرة

Friday, April 3, 2009

يوميات: فى مكتب د.جلال أمين!

منذ لحظات كنت فى مكتب د.جلال أمين عالم الاقتصاد الشهير والكاتب الأشهر..
كانت المرة الثانية لى فى مكتبه..فى نوفمبر الماضى ذهبت اليه حاملا مسودة كتابى ودخلت اليه طالبا منه أن يقرأ مسودة كتابى،وأنا أعرف أنه ينظر لى ولسان حاله يقول:"كيف يتجرأ هذا الفتى صغير السن ويأتى له حاملا مسودة كتابه كى أقرأها؟"
وبالفعل كنت متوترا بشدة وأرى أن الأمل ضعيف جدا أن يفعلها د.أمين ويأخذ كتابى قبل نشره
وبالفعل اعتذر د.أمين وقال أنه مشغولا بشدة.
أستعدت هذه اللحظات وأنا أقف على باب مكتبه، مترددا: هل أدخل أم لا؟
هل يرفض طلبى كما فعل فى المرة السابقة؟
واتخذت قرارى كى لا أندم فيما بعد..ودخلت عندما خرجت الطالبة التى كانت فى مكتبه..تقدمت اليه وهو ينظر لى فى ساتغراب..صافحته قائلا:
-صباح الخير
- انت مين؟
ناولته كتابى بعد أن كتبت عليه اهداء..وقلت:
- أنا علاء مصباح..
وقبل أن أكمل سألنى:
-انت اللى كاتب الكتاب ده؟
- أيوة
-احنا اتقابلنا قبل كده..صح؟
- أيوة..كنت جبت لحضرتك مسودة الكتاب بس حضرتك كنت مشغول!
-مبروك!
-الله يبارك فيك!
و قرأ العنوان وسألنى:
-انت قعدت قد ايه فى أمريكا؟
-أربعة أشهر
- وأربع أشهر كانت كافية تكتب الكتاب ده كله؟
- أيوة..أصله أدب رحلات
قرأ د.أمين الاهداء وعلق:
- انت كاتب الاهداء بالعامية!
-مش مشكلة.
- لأ مشكلة..بس جيلكم متعود على كده..عموما أنا هقراه وأقولك رأيى..اكتبلى رقم تليفونك.
كتبت له رقم موبايلى..سألنى:
-قريت لى حاجة قبل كده؟
- اه..ماذا علمتنى الحياة وماذا حدث للمصريين؟
- ايه رأيك فى ماذا علمتنى الحياة؟
-حلو قوى
تطلع د.أمين للكتاب وقال:
- الطباعة حلوة قوى..انت أقنعت الناشر ازاى ينشر ليك؟
- الاستاذ يحيى هاشم الناشر قراه وعجبه
- يحيى هاشم ده ليه علاقة بمحمد هاشم بتاع ميريت؟
- لا خالص..ده ناشر للشباب
- خلاص يا علاء أنا هقراه وأقولك رأيى..بس استنى عليا شوية عشان عندى كتب كتير...انت بتدرس ايه؟
-Mass Communication
-هتتخرج امتى؟
-السنة الجاية
- انت بتكتب أصلا؟
- من صغرى
- خلاص هبقى أكلمك لما أقراه
- شكرا يا دكتور
-ده أنا اللى متشكر
و غادرت المكتب وأنا فى غاية التوتر..هل يقرأ د.جلال أمين كتابى حقا؟

يوميات: CIMUN..الرقص بالملابس الرسمية!



1

اليوم أقضى ليلتى مع الكونغو!

غدا أكون مندوب المملكة المتحدة فى لجنة صنع السلام التابعة للأمم المتحدة..أو بمعنى أدق نموذج القاهرة الدولى لمحاكاة الأمم المتحدة المعروف باسمCIMUN..

تعيد لى نماذج الأمم المتحدة ذكريات جميلة للأمم المتحدة الحقيقية كما رأيتها فى نيويورك..مبنى الأمم المتحدة الأزرق الذى يشبه علبة الكبريت إذا رأيته من بعيد..صالة الاستقبال الواسعة بمعرض الرسوم الكاريكاتيرية وشعار الأمم المتحدة المحروق – الذى يخلد ذكرى تفجير مبنى الأمم المتحدة فى العراق- والوجوه البيضاء والصفراء والسوداء من كل أجناس الأرض..محاضرات السياسة وجلسات مجلس الأمن المغلقة وقاعات الاجتماعات المثيرة للاهتمام..هذا الشعور المهيب بان فى قلب المنظمة التي تحدد مصائر الشعوب..كل هذه ذكريات جميلة أستعيدها كلما ذكر اسم الأمم المتحدة أمامى!

وها نحن الآن نخوض الأمم المتحدة على طريقة نماذج المحاكاة..قضيت وقتا طويلا فى المكتبة محاولا أن أذاكر..أن اعرف لماذا جاءت الأمم المتحدة بقواتها الدولية الى الكونغو..لماذا يقتلون بعضهم البعض هناك..لماذا أرسلت مصر بقوات من جيشها هناك..لماذا تقتل النساء والأطفال والشيوخ بلا ذنب فى

أرض أخرى ليس بها عربا ولا يهودا..أسئلة كثيرة كانت تملأ ذهنى وأنا أقرأ الكثير عن

MONUC

أو بعثة الأمم المتحدة إلى الكونغو الديمقراطية،و للأسف لم أجد لها جوابا شافية..مازلت لا أعرف لماذا تتقاتل القبائل فى هذا البلد الافريقى الغنى بالثروات..ومادامت الأمم المتحدة هناك لماذا يظل الصراع مستمرا..لماذا لا أعرف أنا شيئا عن هذا الصراع رغم مئات الألاف الذين ماتوا..هل أنا حقا جاهل أم أن الأمر حقا ليس بهذه الأهمية؟



2

منذ الصباح الباكر بدأت التساؤلات تتعالى فى الجامعة..عدد كبير من الطلبة يمشون فى الجامعة بالملابس الرسمية..أولاد ببذلات سوداء أنيقة..البنات بملابس رسمية منها ما تلفت الأنظار بجيباتها القصيرة أحيانا القصيرة جدا أحيانا أخرى..ثم جاءت الساعة العاشرة ليذهب السادة الدبلوماسيين الى قاعات الاجتماعات لتبدأ فعاليات المؤتمر الحادى والعشرين لمحاكاة الأمم المتحدة.

فى مجلسنا لاحظت عددا من الوجوه الجديدة التى لم أرها من قبل فى الجلسات التحضيرية للمؤتمر..وعرفت أنهم قادمون خصيصا من الولايات المتحدة لحضور المؤتمر..لم أكن أتصور المؤتمر بكل هذه الأهمية التى تدفع شابا أمريكيا أن يترك حياته ودراسته ومشاغله فى أمريكا ويدفع مئات الدولارات ويأتى إلى القاهرة ليلعب هذه اللعبة الممتعة معنا.

أعجبنى الأداء المتحمس لمندوب السلفادور..كان شابا أمريكيا نشطا يطلب الإذن بالكلام طوال الوقت..يتحدث أغلب الوقت..كان مصرا على أن يتولى كتابة التقرير بنفسه..يعين نفسه قائدا للقرار برغم أنف الآخرين..تصور هذا الشاب قد جاء من بلده خصيصا قاطعا ألاف الأميال ودافعا مئات الدولارات كي يحضر معنا هذا المؤتمر لاعبا دور السلفادور!

فى هذه النموذج ننسى تماما أسماءنا الحقيقية ونتسمى بأسماء بلادنا – أو بمعنى أدق البلاد التى نمثلها..هذه الفتاة هى "باكستان" وهذا الفتى هو "الكونغو"..من الجميل هنا أن ترى مندوب روندا أو السودان فتى أمريكيا بعينان خضراوتان وشعر أشقر، وممثل اليايان فتى أسود البشرة، بينما مندوب الولايات المتحدة فتاة مصرية، ولا يستبعد أن تجد مندوب مصر فتاة أمريكية شقراء..وداعا للعنصرية!

قد تغلب الجدية على المجلس الموقر بعض الوقت..أغلب الوقت..لكن لي بالضرورة كل الوقت.فى لحظات معينة يضجر السادة الدبلوماسيين ممثلى دول العالم من الحوار الدبلوماسى الممل ليبدأ الكلام الفارغ والتهييس..فى مجلسنا تحول النقاش فجأة من حقوق الإنسان وسيادة الدول على حدودها إلى أزمة الزواج فى بعض الدول، ووقف مندوب مصر يدعو السادة الأعضاء أن يتجهوا إلى مصر إذا أرادوا البحث عن زوجة مثالية، فطلب مندوب الكونغو الإذن بالكلام وقال نه يبدو واضحا الضجر على السادة الأعضاء ودعاهم لدرس لتعلم الرقص على الطريقة الأفريقية عقب انتهاء أعمال المؤتمر.

فى أوقات الراحة نتخلى عن الطابع الدبلوماسى التمثيلى لنتجاذب أطراف الحديث، لتكون فرصة مثالية لتتعرف على طلبة آخرين من جامعات أخرى يشاركونك نفس المجلس أو مجلس أخر، أو تتعرف على أعضاء آخرين جاءوا من بلاد العالم المختلفة كى يخوضوا هذه التجربة الدبلوماسية التمثيلية فى القاهرة.

تعجبنى محاولات كل عضو أن يتخذ من السياسة الخارجية للدولة التى يملها منطلقا له، فأمريكا دائما تحاول أن تفرض رأيا،والحلفاء لا يدخرون جهدا لتأييدها، لكن الأمر المختلف فى نماذج المحاكاة السياسية أنك تتخذ القرارات السياسية بسهولة دون كثير من القلق أو التوتر،لكن الأمر فى عالم الواقع قد يعنى حياة الملايين وقد يحدد مصير شعوبا بأكملها..فى هذه اللعبة تدرك جيدا كيف يتخذ السادة الدبلوماسيين قراراتهم دون أن يعيروا اهتماما كبيرا بالعدالة والديمقراطية والإنسانية..الكلمة الأولى والأخيرة لمصلحة دولتك وحلفائها..هذه هي السياسة!

يثير اعجابى الحماس الذي يعمل به بعض السادة المندوبين، كأنهم في مجلس أممى حقيقي، فتجد الواحد منهم قد اندمج تماما فى دور دولته، فممثل أمريكا يفرض رأيه ويعمل من أجل مصلحة دولته رغم أنف الجميع،وممثل انجلترا –أنا- ينحاز إلى أمريكا انحيازا أعمى، و ممثل اسرائيل يجادل ويعارض كل القوانين والأعراف الدولية –ليس فى مجلسنا لكنه حتما يفعل ذلك فى المجالس الأخرى!

كما أن رئيس كل مجلس يصر دائما على التزام الأعضاء بالقواعد والمعايير الدبلوماسية –فهو رغم كل شيء نموذج محاكاة حقيقى للأمم المتحدة، ولابد أن يمثل الجميع كأنهم فى أمم متحدة حقيقية..القرارات والتوصيات لابد أن تصاغ بذات الصيغة..المناقشات والمناظرات والتصويت بنفس الطريقة..الحوار دائما بلغة إنجليزية تختلف لهجاتها حسب متحدثيها..لمنها تبقى إنجليزية في النهاية!

على جانب المؤتمر كنت متحمسا أن أتحدث مع السادة المندوبين الأمريكيين لأعرف انطباعتهم عن مصر خلال الفترة القصيرة التى قضوها فيها..كان أحدهم الفتى المتحمس سكوت الذي جذب الأنظار بتمثيله الرائع لدولة السلفادور..سعدت بالتعرف عليه وأخبرني أنه طالب فى جامعة كلومبيا أشهر جامعات مدينة نيويورك،وقال أنه يأمل أن يأتي للدراسة فى القاهرة بعد تخرجه..كان منبهرا بمستوى النقاش فى المجلس وقال أنه أكثر من رائع!

الانطباع العام الذى حدثني عنه سكوت وغيره من الطلبة الأمريكيين بعد أيامهم القليلة فى القاهرة أن المدينة أثارت دهشتهم بضخامتها.."لم أتصور أنها أكبر من نيويورك سيتى"..هكذا قال لى سكوت..طبعا التلوث الشديد يثير ضيقهم وهو شىء لم يألفوه فى بلدهم..الزحام القاتل ونظام المرور حيث لا أحد يبالى بقوانين المرور أغلب الوقت.

وكان الطلبة مبهورين بكثرة المساجد وطرازاتها المعمارية..يسألون عن سعر البنزين هنا ويقارنونه بما لديهم فيجدون الفرق شاسعا حقا..أخبرهم أن "سعر لتر البنزين يعتبر باهظا الآن للمواطن المصري البسيط وأن الأسعار شهدت زيادات كبيرة خلال الأعوام الأخيرة".

طبعا لم يفوت الطلبة فرصة رؤية الأهرامات وهى كالعادة أول ما يبحث عنه السائح الأجنبي ليراه فى مصر..سألت سكوت عما إذا كان قد زار منطقة خان الخليلى والحسين، فقال لى طبعا رغم أن المنطقة شهدت حادثا إرهابيا قبل أسابيع قليلة..وأضاف:"أفضل ما تفعله لتهزم الإرهاب أن تقضى حياتك كما تريد."

فى فترة الغداء نكتشف أن طعام الغداء شاورمة و فول وطعمية من الشبراوى..يبدو أن منظمي الغداء نسوا أن معنا أجانب، أو ربما أرادوا أن يقدموا لهم تجربة مصرية خالصة..كانت إحدى الفتيات الأمريكيات تزاحم معنا على الطعام متساءلة عن ماهية هذه المأكولات..تساءلت عن ماهى الطعمية،فأخبرتها أنها ما يسمونها بالفلافل..تساءلت مندهشة:"فلافل! أعرف طبعا الفلافل..لماذا تسمونها طعمية إذن؟"

وكعادة نماذج المحاكاة لابد أن ينتهى اليوم بخروجة ..لابد من بعض المرح بعد الكثير من السياسة..فى أرابيلا التقينا من جديد..على أنغام المزمار الصعيدى تراقص السادة الدبلوماسيين بالملابس الرسمية..الكل قد بذل مجهودا كبيرا خلال الجلسات من العاشرة صباحا حتى السادسة مساء، وقد حان الوقت أخيرا لتفريغ كل هذا الكبت..فى هذه المناسبات يوجد لديك حلين لا أكثر..أن تتراجع عما يفعله هؤلاء "المجانين" وأنت تقف وحيدا متظاهرا بالجدية والحزم لتجلس مع نفسك تسمع الموسيقى الصاخبة وتراقب السادة الراقصون والراقصات تتذكر الحكمة التى أخبرها بك صديقك منذ عام –وهى الدافع رقم واحد الذى جعلك تدخل نموذج المحاكاة:" أحلى حاجة فى

MUN

هى البنات"..ولم يكذب صديقك خبرا!

الخيار الثانى أن تنسى كل شىء عن الدبلوماسية وصورتك المحترمة أمام الآخرين وأن تشارك الاخرين جنونهم..تدخل وسط حلقة الراقصين متمايلا على أنغام الموسيقى ناسيا أنك ترتدي البدلة الكاملة لترقص مع الراقصين وتغنى مع المغنيات، وربما يحالفك الحظ وتجد إحدى الفتيات قد اختارتك من دون الرجال جميعا لتشاركها الرقص..حينها –أرجوك- أنسى تماما أنك لا تجيد الرقص فعلا –فربما هى أيضا لا تجيده- وتوكل على الله..ربنا يسهل لك!

فى النهاية تكتشف أن أربعة أيام كاملة قد مرت عليك فى هذا المؤتمر دون أن تشعر بمرور الوقت..أربعة أيام مرهقة من العمل الدبلوماسى –التمثيلى – والمناقشات والمناظرات والاعتراضات وطلب الكلمة والتصويت والتنسيق مع الدول الحليفة والشجار مع الدول المعادية وصياغة القرارات..أربعة أيام تعلمت فيها الكثير من السياسة وتعرفت فيها على الكثير من الأصدقاء و -الأهم من كل هذا- الوقوع فى هوى الأمم المتحدة..بمعنى أدق نموذج محاكاة الأمم المتحدة..!

لكن هل يا ترى حللنا مشكلة الكونغو؟

بص وطل: فيلم Outlander

أنت تعرف هذا النوع من الأفلام الذي يقدم لك غزاة الفضاء الخارجي الذين يأتون إلى أرضنا ليعيثوا فيها فسادا.. أنت أيضا تعرف مسلسلات وأفلام العصور الوسطى حيث البطل الخارق والوحوش الخرافية والمعارك التي لا تنتهي أبدا بين الإنسان والطبيعة.. هذا الفيلم ليس من بين هذين النوعين، لكنه نوع ثالث يجمع بين غزاة الفضاء الخارجي؛ الوحوش الخرافية وأبطال العصور الوسطى!

والحكاية تقع أحداثها في القطب الشمالي..تحديدا في النرويج..في عام 709 بعد الميلاد..إنه عصر الفايكنج..في أجواء العصور الوسطى حيث السيف هو اسم اللعبة، تحط مركبة فضائية غريبة على كوكب الأرض، ليخرج منها البطل الأسطوري كانيان، ومعه يبرز الوحش الخرافي الذي يطلقون عليه اسم موروين.. لا يعرف الوحش شيئا سوى التدمير والتخريب، فيعيث في بلاد الفايكنج فسادا مدمرا البشر والبيوت وكل أثر للحضارة في طريقه.

هنا لابد أن يتدخل كانيان ليوقف الوحش موريون، ولأنه ليس بوسعه أن يفعل ذلك وحده، فإنه يتحالف مع رجال الفايكنج ليخوض حربا بلا هوادة ضد الوحش الخرافي، لينقذ الحضارة البشرية من شروره.

بطل الفيلم هو الممثل الأمريكي جيمس كازيفيل، وإذا لم تكن قد عرفته دعني أذكرك به.. هل تذكر الممثل الذي أدى دور السيد المسيح في فيلم "آلام المسيح" فائق الشهرة قبل خمسة أعوام؟..نعم، إنه هو.. صحيح إنه يبدو مختلفا كثيرا، لكن لا تنس كم الماكياج والمؤثرات التي غيرت كثيرا من شكله ليؤدي دور المسيح في الفيلم الذي أثار ضجة عالمية وفجر غضب اليهود حول العالم وجلب التعاسة للمخرج ميل جيبسون ومعها أيضا حازت شهرة كازفيل الآفاق، فقد كان دورا لا ينسى مع المخرج توني سكوت بعدها في فيلم "شوهد من قبل –ديجا فو" لا جدال أن جيمس كازفيل كان أبرز أبطال فيلم Outlander، بأدائه الرشيق وجسده ممشوق العضلات وبراعته الشديدة في تقمص دور الفارس الغريب كانيان، حتى إن المشاهد يقع في حب كانيان بشدة ناسيا أنه غازٍ من الفضاء الخارجي لكنه يشبه البشر فحسب.

القصة كما نرى تقليدية للغاية، ولاتزال تتعامل مع عقول المشاهدين بحبكات قصص الأطفال.. هذا هو كانيان رمز الخير الذي يتصدى للوحش المخيف موروين الذي يمثل رمز الشر، وكالعادة أيضا لابد أن ينتهي الصراع بمشهد أسطوري يقف فيه الرمزان في مواجهة كل منهما الآخر، وبعد دقائق من الصراع مفعمة بالإثارة ينتصر رمز الخير ويسقط رمز الشر صريعا!

أسرف المخرج في مشاهد الحرب على طريقة العصور الوسطى، فهناك الكثير من الفرسان الذين يقودون الجياد وينطلقون راكضين بها، وسط صليل السيوف الذي لا يتوقف، ولابد أن يصاحب مشاهد الدمار الكثير من النيران التي تملأ شاشة السينما حتى تثير مزيدا من الرعب والإثارة في دماء المشاهدين.

ورغم ذلك فالمخرج قدم فيلما جميلا، تمكن فيه من السيطرة على مفردات الصورة، ونجح في تفجير إثارة الفعل في نفوس المشاهدين بموسيقى تصويرية رائعة وزوايا تصويرية متميزة تجعل المشاهد متابعا للمعركة من كل زواياها راصدا كل حركة لا سيما في مشهد الصراع الأخير بين كانيان والوحش موروين.

في رأيي الفيلم لن يضيف لك جديدا إذا قررت أن تصطحب أصدقاءك وتذهبوا لمشاهدته في السينما، ولا تعلق بعد نهايته سوى بعبارة "فيلم لا بأس به"، فإذا كان ذلك هو كل ما تريده فلا تتردد وشاهد الفيلم.

المقال على بص وطل:

http://www.boswtol.com/tafaneen/nkalamxfan_242_025.html

بص وطل: خالتى صفية والدير لبهاء طاهر


"خالتي صفية والدير" أحد أهم روايات الكاتب الكبير بهاء طاهر، فيها القرية وحياتها بكل تقاليدها يقدمها لنا بهاء طاهر بحرفية ومهارة غير عادية، يحتل الدير فيها مكانة مقدسة بين المسلمين والمسيحيين على السواء، ويقوم فيها الفلاحون بدورهم كما للأثرياء فيها مكانتهم ومنزلتهم العالية.

شخصية الراوي لا تؤثر كثيرا في تتابع الرواية، فهو ليس بشخصية رئيسية تتحكم في مسار الأحداث لكنه شاهد دائم عليها، في البداية كان يكنُّ حبا كبيرا لخالته صفية، وهو يروي الأحداث من وجهة نظره كطفل صغير، ومع الوقت يكبر ومعها تكبر رؤيته.

يصف الراوي الدير قائلا: "كان مسموحا لي أن أتجول على حريتي في الدير الذي يشبه قريتنا إلى حد ما بطرقاته المتعرجة وبيوته أو قلاياته المبنية بالطين والتي تختلف فقط في أن سقوفها على شكل قباب".

يتحدث الرواي كثيرا في البداية عن شخصية المقدس بشاي وعن حكاياته الكثيرة وكيف كان عليما بتاريخ الدير وببواطن الأمور، كما يصفه بالطيبة والرحمة فيقول عنه: "كان المقدس بشاي آخر من يتمنى الموت لأي إنسان، رأيته بعيني ذات يوم يبكي وهو يضمد ساق أرنب جريح في مزرعة الدير بالقطن والشاش".

وينطلق الراوي بعدها للإسراف في الحديث عن الخالة صفية بعبارات قوية رنانة تبرز بلاغة بهاء طاهر الأدبية.. في العيد لابد أن يحمل أول علبة حلوى إلى الخالة صفية.. ويبدأ في وصف الخالة قائلا: "لم تكن خالتي صفية تكبرني بأكثر من سبع أو ثماني سنوات كما أنها لم تكن في الحقيقة خالتي".. "كنت أعتبرها أجمل إنسانة في العالم لا أستثني سوى فاتن حمامة التي وقعت في غرامها في فيلم شاهدته لها في سينما الأقصر".. "منذ الصغر كانت صفية تلفت الأنظار بجمالها".

ومثلما كانت الخالة صفية جميلة الجميلات بين البنات، فكان العم حربي أوسم الرجال.. يصفه الراوي قائلا: "كان حربي طويل القامة بشرته خمرية ولكن في خديه دائرتان مشربتان بحمرة الدماء يحددهما شاربه الأسود الذي يزيده وسامة بطرفيه المفتولين باستمرار".. "كان صوته القوي هو أجمل ما فيه، يعرف الكل ذلك فيلحّون عليه لكي يغني في الأفراح أو الليالي".

وكان السؤال الدائم المتردد على الأذهان.. ها هو ذا حربي، وها هي ذي صفية.. كل منهما أصلح ما يكون للآخر زوجا، لكن هل كانت صفية تحب حربي؟

الشخصية الثالثة المهمة بعد شخصيتي صفية وحربي هي شخصية البك القنصل.. "كان البك القنصل هو فخر قريتنا وأحب شخص في البلد إلى قلبي في طفولتي".. "برغم أن البك لم يعمل في حياته قط في السلك الدبلوماسي ولم يمارس شيئا غير الزراعة والتجارة فقد كان قنصلا حقيقيا".. "لم يتغير البك كثيرا بعد الثورة، صحيح أنه الوحيد الذي طبق عليه قانون الإصلاح الزراعي في بلدنا غير أنه تقبل ذلك بكل هدوء".

أمتع مواقف الراوية عندما يأتي البك القنصل بصحبة حربي لخطبة الخالة صفية.. فالبك ثري ويبحث عن زوجة ينجب منها ولدا ليرث ثروته.. لكن كيف يساعد حربي البك في أمر كهذا؟.. ألا يحب حربي الخالة صفية.. وتكون المفاجاة الكبرى أن توافق الخالة صفية على الزواج من البك القنصل!

السؤال هو لماذا قبلت صفية الزواج من رجل في سن والدها؟ لماذا لم ترفضه كما رفضت من قبله؟

"ومازلت أنا حتى الآن بعد أن كبرت كثيرا يحيرني هذا السؤال: لماذا أحبت صفية بعد حبها الأول الجميل ذلك الرجل الذي يبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف عمرها؟ وهل سأعثر في يوم على جواب حقيقي؟ وهل سأعرف إن كانت قد أحبّت القنصل لسبب ما أو لعلة ما أو أنها قد أحبته فحسب مثلما تحب أي امرأة أي رجل؟".

وتستمر الحكاية لتنجب صفية للبك الحلم المنتظر.. حسان، لكن تقع الكارثة وتقع محاولة للاعتداء على الرضيع حسان، لتتجه الشكوك نحو حربي.. وهكذا تتطور الأحداث شيئا فشيئا وتتخذ مسارا مثيرا للغاية لا نريد أن نكشفه للقارئ حتى لا نقلل من استمتاعه بقراءة هذه الرواية.
ثمة تحول غريب في شخصية خالتي صفية.. في بداية الرواية هي فتاة جميلة مهذبة يطمح فيها الكل للزواج منها.. في النصف الثاني من الراوية بعد مقتل زوجها نجدها قد صارت شخصية صلبة جافة قاسية القلب لا تفكر سوى في الثأر لزوجها.

يمثل الدير في القرية المكان الوحيد الآمن الذي يمكن أن يحتمي به حربي، وبهاء طاهر يقدم بذلك نموذجا فريدا من الوحدة الوطنية حيث لا يرفض الأقباط تواجد حربي في ديرهم بل ويعطونه الأمان ويحمونه أيضا.

كالعادة لابد أن يضع بهاء طاهر شيئا من التاريخ في روايته، وهنا تتزامن نكسة 1967 مع منتصف الرواية، ويذكرها الراوي قائلا: "كنا قد رأينا النكسة في البلد بأعيننا حين حلقت فوق رؤوسنا الطائرات ذات النجمة الشبيهة برؤوس الخناجر المتقاطعة".

إذا لم تكن قد قرأت هذه الرواية الممتعة فلابد أنك شاهدت أو على الأقل سمعت عن المسلسل التليفزيوني الشهير الذي جسد الرواية ولعب بطولته ممدوح عبد العليم وأخرجه إسماعيل عبد الحافظ، لكن لا شك أن الرواية تفوق المسلسل متعة وإثارة.. جرّب أن تقرأها حتى تعرف!

المقال على بص وطل:

http://www.boswtol.com/aldiwan/nkasakees_242_04.html