Tuesday, June 23, 2009

قصة سياسية قصيرة فى الدستور : مياة معالى الوزير

اضغط على الصورة لترى الكلام بحجم كبير:

مياة معالي الوزير

كان السؤال الذي فاجأ معالي الوزير خلال ندوته مع شباب الجامعات في معسكر الشباب بالإسكندرية مستفزا للغاية لمشاعره، حتى أن معالي الوزير انفعل بشدة فى وجه الشاب الذي ألقى السؤال، للدرجة التي تصور فيها الحاضرين بما فيهم مساعد الوزير ذاته أنهم أخطئوا سماع السؤال وأن أذانهم خانتهم وغفلت عنهم سماع سبة ما نطق بها الشاب، لاسيما أن لحيته البارزة كانت توحي بأنه ينتمي للجماعة المحظورة إياها.
لكن الحقيقة أن السؤال كان كما سمعوه بالضبط..كل ما فعله الشاب أنه تجرأ وأشار إلى زجاجات المياة المعدنية المصطفة على منصة السيد الوزير وسأله عن النوع الذي يفضله معالي الوزير، حتى يسير الشباب المصري على حذوه ويشربون نوع المياة المعدنية ذاته باعتباره ماء "وزاريا" معتبرا!
لكن السيد الوزير نهض عن مقعده غاضبا، وراح يصيح أمام وجوه الحاضرين : مياة معدنية؟..تسألني عن مياة معدنية فى بلد النيل؟..ألا تعرف النعمة التى أنعم الله سبحانه وتعالى به علينا؟..مياة النيل!..النيل!..هيرودوت الأجنبي قالها بنفسه..مصر هبة النيل..وبعد ذلك تريد أن تشرب ماء معدنية! تترك مياة النيل المقدسة وتشرب مياة معدنية!
ويبدو أن الشاب لم يرتعد ولم يهتز لغضبة معالى الوزير، بل أنه زاد جرأة وهو يبتسم ابتسامة تخفى خواطره الشيطانية، وهو يرد بهدوء على معالى الوزير: يعنى حضرتك عاوز تفهمنى أن السادة الوزراء يشربون من مياة الحنفية مثل عامة الشعب رغم أن العالم كله يعرف أن هذه المياة المصرية الخالصة ملوثة!
وهاج الوزير للكلمة: مياة النيل ملوثة!..استغفر الله يا رجل...سبحان الله! هؤلاء المفترون هم من يشوهون صورة مصر أمام العالم كله!
واستمر الوزير فى هياجه حتى أن مساعده قام بنفسه محاولا أن يهدئه، ونهض السادة منظمي الندوة يعيبون على الشاب الاخوانى جرأته وافترائه على بلده، ووقف أحدهم يلعن أبو الديمقراطية التي سمحت لمثله أن يهرتل أمام معالي الوزير بما ليس له علم، حتى أن الشاب عاد لمقعده محمر الوجه خجلا من الضجة التي أحدثها فى القاعة، لكن معالي الوزير أمر مساعده بأن يذهب فورا ليملأ كوبا من مياة الحنفية ويحضره على وجه السرعة، فنهض المساعد وهو ينظر في وجه الوزير مندهشا ولسان حاله يقول: مش للدرجة دى يعنى، لكن صياح معالي الوزير أرغمه على الذهاب من فوره إلى الحمام والعودة بكوب مملوء بمياة الحنفية إلى معالي الوزير.
ونهض معالى الوزير يلتقط كوب المياة، ووقف أمام كاميرات الصحفيين يشكر الله تعالى على نعمته العظيمة وهباته الجليلة إلى شعب مصر،التي يحسدها عليه العالم أجمع، ثم جرع كوب المياة مرة واحدة، فوقف الحضور جميعا يصفقون لمعالى الوزير شجاعته ويمطرون الشاب الإخوانى بنظرات الحقد والكراهية حتى أن الشاب انسحب من القاعة مطأطأ الرأس وفى عينيه دموع الندم، أسرع أحد الصحفيين يسجلها بكاميرته فى الصورة التي احتلت الصفحة الأولى للجريدة القومية اليوم التالى، وتحت عنوان "ألا لعنة الله على الظالمين"!
لكن الخبر الذي نشرته جريدة المعارضة بعدها كان مثار جدل كبير فى البلاد، أن معالي الوزير قد أصيب بنوبة قىء شديدة خلال عودة موكبه من الإسكندرية إلى القاهرة، لكن المصادر الرسمية نفت الخبر بشدة، واتهمت الجريدة المعارضة بالافتراء وتسريب الشائعات وأن معالي الوزير يتمتع بوافر الصحة والعافية بحمد الله.
وخلال أسبوع واحد أعلنت الوزارة أن معالي الوزير قد أصيب بأزمة قلبية، ألزمته الفراش لأيام، ثم أعلن التليفزيون الرسمي في نهاية الأسبوع استقالة معالي الوزير من منصبه لأسباب صحية، وعندما وافته المنية نهاية العام كان الكل قد نسى كل شيء عن واقعة المياة المعدنية إلا الطالب الإخوانى الذى راح يحكى ما حدث لزملائه ويقسم بالله أنها كانت المرة الأولى التى يذيق فيها معالى الوزير مياة الحنفية، وأن ما حدث له ما هو إلا التطور الطبيعى للحاجة الـ...أقصد لمياة النيل!

علاء مصباح
جريدة الدستور
الأربعاء 17 يونيو 2009



بص وطل:عرض كتاب "الانفجار 1967"لمحمد حسنين هيكل

الانفجار 1967.. تفاصيل أسوأ ستة أيام في تاريخ العرب
"إن قصة 5 يونيو عام 1967 ليست قصة أيام ستة اندلع فيها القتال ثم ساد وقف إطلاق النار بعدها، وإنما القصة قبل ذلك بكثير وبعد ذلك بكثير؛ لأن وقائع التاريخ الكبرى لا تهبط على المواقع مثل قوات المظلات"..
بهذه الكلمات يبدأ الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل كتابه الخطير جدا "الانفجار 1967"، الذي يحكي بالتفاصيل الدقيقة والوثائق والمخطوطات قصة عام 1967 الذي شهد تطورات خطيرة غيرت خريطة الشرق الأوسط تغيرا لم يشهد القرن العشرين مثله، ولاتزال آثارها جارية حتى يومنا هذا.
وكما يوضح هيكل في مقدمة كتابه، فإن أكثر ما ميز كتابه هو أن الكاتب نفسه كان شاهدا على هذه الأحداث باعتباره رئيس تحرير جريدة الأهرام أكبر الصحف القومية المصرية والصديق المقرب للرئيس جمال عبد الناصر، لذلك كان هيكل أفضل من يكتب عن تفاصيل هذه الحرب الخطيرة في هذا الكتاب الذي يقع في أكثر من ألف صفحة مدعمة بالوثائق، نشر أولا بالإنجليزية ثم عهد هيكل لمركز الأهرام بترجمته ونشره مراعيا الدقة في كل ما كتب وكل ما ذكر.
هذا إذن هو الجزء الثالث من سلسلة "حرب الثلاثين عاما" التي كتبها هيكل بعد "ملفات السويس" و"سنوات الغليان" ليؤرخ لحروب مصر مع إسرائيل، وهو لا يتوغل كثيرا في تفاصيل العمليات العسكرية؛ لأنه ممن يعتقدون أن مصائر المعارك تتقرر قبل أن تنطلق رصاصة واحدة في ميدان القتال، وبالتالي فإن الصراع السياسي الشامل وملابساته هو جوهر القصة في أي حرب، وليس جوهرها هو تصادم الدبابات وصراخ المدافع.
القاهرة - عمان - دمشق
في 12 مارس 1967 كانت الأزمة السياسية بين القاهرة وعمان على أشدها.. القاهرة تتهم عمان باشتراكها في عمليات تجنيد المرتزقة في حرب اليمن، ووقف وزير الخارجية المصري يعلن استعداد الجمهورية العربية المتحدة لأن تنفذ جميع مقررات مجلس الدفاع العربي المشترك، وأنها مستعدة؛ لأن تتدخل فورا للدفاع عن أي بلد عربي يتعرض لاعتداء إسرائيلي حتى لو كانت الأردن.
في أبريل كان التوتر على الحدود الإسرائيلية السورية في شدته.. رئيس الوزراء الإسرائيلي يعلن أمام الكنيست أن إسرائيل قررت أن ترد بالطريقة التي تراها مناسبة على سوريا وأن الطريق إلى دمشق مفتوح، ويعلن أن إسرائيل تعلم جيدا أن سوريا تقف وراء أعمال التخريب التي يقوم بها الفدائيون الفلسطينيون داخل إسرائيل، فترد سوريا ببيان شديد تؤكد نيتها في إشعال الموقف إذا قامت إسرائيل بأي هجمات ضدها، وأكد البيان أن الولايات المتحدة قد حولت إسرائيل إلى مجرم محترف.
الموقف يشتعل على الحدود السوريةفي منتصف مايو 67 كان الموقف واضحا في القاهرة.. الاتحاد السوفيتي أبلغ عبد الناصر بالحشود الإسرائيلية الضخمة أمام الحدود السورية، وكان تحليل عبد الناصر للموقف كالآتي.. التهديدات الإسرائيلية حقيقية، حتى ولو كانت كما يردد البعض مجرد حرب نفسية، فإنها من الممكن أن تؤثر على الجبهة الداخلية السورية.. إذا سقط النظام في سوريا، فإن هذا يؤثر على العراق، ومع سقوط بغداد ودمشق في أيدي أنظمة رجعية قد تتهاون في التعامل مع إسرائيل، تبقى القاهرة وحدها في المواجهة، لذلك فمن المهم جدا أن تقف القاهرة إلى جانب دمشق في هذه الأزمة.
ناصر يغلق خليج العقبة
في 16 مايو كانت القيادة المصرية تطلب من قائد قوات الطوارئ الدولية في سيناء سحب قواته، وتحركت القوات المصرية للسيطرة على خليج العقبة، وبعد مشاورات كثيرة في الحكومة المصرية اتخذ عبد الناصر القرار الحاسم بلا رجعة وصدرت التعليمات صباح 22 مايو بغلق خليج العقبة تماما أمام جميع السفن التي تحمل العلم الإسرائيلي ومنع وصول ناقلات البترول إلى ميناء إيلات الإسرائيلي، وأعلن عبد الناصر أن سبب قراره يرجع إلى التهديدات الإسرائيلية لسوريا، وطالب الدول العربية أن تضغط على شاه إيران ليوقف تصدير البترول إلى إسرائيل قائلا: "إذا توقف إمداد البترول الإيراني إلى إسرائيل فإن إسرائيل قد تفكر مرتين قبل أن تتحرك بالعدوان".
وبينما اشتعل الموقف في عواصم العالم تأييدا أو احتجاجا على قرار عبد الناصر، كان ليفي أشكول يعلن اتخاذ إجراءات بتعبئة قوات الاحتياط الإسرائيلية، وإلى القاهرة وصل يو ثانت السكرتير العام للأمم المتحدة للحديث مع عبد الناصر بشأن الأزمة، وكان السؤال الأهم في حديثهما هل خليج العقبة مياه إقليمية لمصر من حقها أن تغلقه في وجه السفن الإسرائيلية -كما يصر عبد الناصر- أم هو ممر دولي كما قال ليندون جونسون الرئيس الأمريكي؟ ورفض عبد الناصر بشدة التراجع عن قراره بغلق الخليج قائلا: "نحن لا نستطيع مجرد النظر في ذلك؛ لأننا لا نستطيع إصدار الأوامر لقواتنا بمشاهدة السفن الإسرائيلية مارة على مسافة ميل واحد من مواقعهم". وهنا يجب أن نوضح أن السفن التي تمر في خليج العقبة تمضي عبر مضيق ضيق عرضه ميل واحد، بين جزيرة كبيرة وساحل سيناء.
في صباح 25 مايو طلبت أمريكا من رعاياها في مصر مغادرة البلاد خلال أسبوع واحد على الأكثر، وهو ما رأته القيادة العسكرية في القاهرة بأن ثمة ترتيبا على نحو أو آخر بين إسرائيل وأمريكا، وأن قصارى جهدهم أن يتحققوا من مدى بُعد وعمق هذا الترتيب.
خيارات الحرب
في تل أبيب كانت الحكومة تستعرض خيارات الرد على عبد الناصر.. أولها عملية عسكرية محدودة يتم فيها احتلال شرم الشيخ وفك الحصار عن خليج العقبة وتبدو ردا مباشرا على تهورات عبد الناصر.. ثانيها تدمير السلاح الجوي المصري واحتلال غزة وترقب ردود الفعل.. وإذا كان هذان الخياران ناقصين عسكريا فإن الخيار الثالث هو الحرب.. الحرب الشاملة، وقبلها لابد من تبين موقف القوتين العظميين بدقة.. لابد من الوصول لغاية الثقة في تأييد أمريكا، وحساب موقف السوفيت وهم الذين أكدوا لمصر الحشود الإسرائيلية لسوريا، ثم إنه من الضرورى أيضا حساب رد فعل أمريكا إذا تحرك السوفيت لنجدة حلفائهم في الشرق الأوسط.
نفس الحال يتكرر بسيناريو آخر في القاهرة.. عبد الناصر قلق من دعم السوفيت، فيرسل وزير الحربية شمس بدران إلى موسكو، لتؤكد له الحكومة السوفيتية بوضوح تمسكها بمساعدة الجمهورية العربية المتحدة سياسيا وماديا وعسكريا، وأن السوفيت سعداء بقوة الجمهورية العربية المتحدة؛ لأنهم -على حد قول وزير الخارجية السوفيتي- يحسون بأن لهم نصيبا في تشكيل هذه القوة ليس بالسلاح فحسب بل بالعمل والخبرة أيضا!
إلى القاهرة طار الملك حسين من عمان، ليجتمع بعبد الناصر بعد أن حسب خيار الحرب ووجد أن الأردن لن تقف ساكتة إذا اشتعل الموقف، وكان مطلب الملك حسين من عبد الناصر واضحا.. إنه يريد قائدا مصريا -اقترح أن يكون عبد المنعم رياض- لقيادة العمليات على الجبهة الأردنية، مادام الاتفاق أن تكون إدارة العمليات كلها تحت قيادة رئيس أركان حرب الجمهورية العربية المتحدة وبذلك يكون رياض حلقة اتصال مناسبة.. وحملت طائرة الملك العائدة إلى عمان الفريق المصري عبد المنعم رياض!
الأصدقاء يؤكدون.. الحرب وشيكة
في أول يونيو تلقى عبد الناصر رسالة من "هو شي منه" زعيم فيتنام الشهير يؤكد له أنه بما يعرفه عن نوايا الأمريكان وأساليب عملهم فإن الهجوم على مصر صار وشيكا، وتلقى عبد الناصر رسالة أخرى من صديقه الرئيس اليوغوسلافي تيتو يؤكد أن الهجوم الإسرائيلي واقع خلال ساعات.
وكمحاولة لقياس مدى كفاءة الطيران الإسرائيلي قامت طائرتان مصريتان بطلعة استكشاف على جنوب إسرائيل، ولم تتحرك الطائرات الإسرائيلية لملاحقتهما إلا بعد 14 دقيقة، وهو ما جعل المشير عبد الحكيم عامر يعلق بـ: إننا قد بالغنا كثيرا في تقدير كفاءة الطيران الإسرائيلي، وكان رأي عبد الناصر التدقيق في هذه المعلومات.
في تل أبيب تم تعيين الجنرال إسحق رابين وزيرا للدفاع، ليتولى بنفسه مقاليد الأمور في هذه الأزمة الخطيرة، ومن حوله رجال الحكومة يشجعونه على القيام بالخطوة العسكرية الكبرى مؤكدين أن لديه أكبر جيش يهودي في التاريخ ينتظر منه أمرا واحدا لتحقيق النصر، كما تلقى تأكيدات أمريكية بدعم موقف إسرائيل إلى النهاية.
تل أبيب تقرر.. الحرب الشاملةشهد يوم 4 يونيو أخطر اجتماع في تاريخ إسرائيل، وانتهى الاجتماع باتخاذ قرار الحرب الشاملة "لتحرير إسرائيل من قبضة العدوان التي تشتد تدريجيا حولها"، وتم تكليف وزير الدفاع بتحديد التوقيت، فيما يكلف وزير الخارجية الإسرائيلي باستنفاد كل إمكانيات العمل السياسي للحصول على تأييد المجتمع الدولي لقرار إسرائيل، وصوّت مجلس الوزراء على قرار الحرب بالإجماع.
وأشرقت شمس الخامس من يونيو 1967 ليبدأ سيناريو النكبة القاسي، في وقت كانت كل المؤشرات تشير فيه للقيادة المصرية أن إسرائيل على وشك القيام بهجوم عسكري، لكن أحدا في مصر كلها لم يتوقع أن تنتهي الأيام القليلة التالية بأبشع هزيمة للعرب في تاريخ القرن .
لماذا لم نقُم بالضربة الأولى؟
رغم المؤشرات التي أكدت للقيادة المصرية أن إسرائيل على وشك المبادرة بالهجوم على مصر، يتعالى التساؤل: لماذا لم تبادر مصر بالضربة الأولى؟.. إجابة هذا السؤال يحمله اجتماع عبد الناصر مع القيادة العليا للقوات المسلحة والفريق صدقي محمود قائد القوات الجوية، الذي اقترح أن تقوم القوات المصرية بالضربة الأولى، لكن عبد الناصر رأى أن الطيران المصري لا يملك القوة ولا الخطة التي تسمح له بضربة أولى مؤثرة. كما أن قيام مصر بالضربة الأولى خطأ سياسي فادح قد يعطي لأمريكا الذريعة لتشارك بنفسها في القتال بطريقة سافرة لا يمكن لأحد أن يلومها عليها.
حرب الثلاث ساعات ونصف!
في الثامنة صباحاً بالضبط قامت موجة أولى من الطائرات الإسرائيلية عددها 174 طائرة بمجموعة من الغارات المتزامنة على كل قواعد الطيران في العمق المصري، ابتداءً من قاعدة أبو صوير على قناة السويس وحتى مطار الأقصر جنوباً. وخلال ثلاث ساعات وصل عدد الطائرات الإسرائيلية المغيرة إلى 492 تمكنت من إنهاء المعركة العسكرية بتدمير سلاح الطيران المصري على قواعده، وصارت فصول الحرب التي توالت خلال الأيام التالية مجرد تفاصيل لا تغيّر في الصورة النهائية للمعركة شيئاً.
وهكذا فقدت القيادة العسكرية المصرية أعصابها وتوازنها بعد أن ضاع سلاحها الفعال، وأصبح الجيش المصري في وضع عسكري لا يُطاق. فبدون غطاء من طائرات فوقه ومع سيطرة كاملة للأجواء من العدو وفي صحراء مكشوفة فإن القتال لا يصبح قتالاً، وإنما يتحوّل إلى قتل مهما كانت شجاعة الرجال!
الانسحاب هو الحل
وهكذا جاء أكثر القرارات العسكرية فداحة في تاريخ مصر الحديث.. عبد الحكيم عامر يأمر الجيش المصري في سيناء بالانسحاب، دون أن تصدر من القيادة أي تعليمات بخصوص أساليب تنفيذ هذا الانسحاب، مما أحدث فوضى ما بعدها فوضى في جيوش الجيش المصري. ويكفينا أن نعلم أن خسائر مصر في كل قطاعات الاشتباك مع العدو في اليوم الأول للقتال كانت 294 شهيداً، وبعد قرار الانسحاب وطريقة تنفيذه وصلت الخسائر إلى 6811 شهيداً حتى مساء يوم 8 يونيو!
ويُحلل هيكل عوامل أخرى قادت إلى الهزيمة، منها أسلوب عبد الناصر في إدارة الأزمة، فهو قاد أزمة 67 بنفس أسلوب أزمة 56، رغم أن الظروف كلها كانت مختلفة.. عبد الناصر تصوّر أن أمريكا لا يمكنها أن تساعد إسرائيل إلى النهاية؛ خوفاً من رد فعل سوفيتي، وخوفاً على علاقاتها مع العالم العربي، وخوفاً على مصالحها في المنطقة. فيما كانت كل المعلومات عن الجيش المصري تتدفق من أمريكا إلى إسرائيل، في وقت يتوزع الجيش المصري فيه ما بين اليمن وسيناء.
أين السوفيت؟
واجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي ليحتفل بالنصر الساحق الذي حققه الإسرائيليون في مصر.. وزير الداخلية شابيرا يُؤكد للكل: "إذا دخلنا القدس فنحن لا نستطيع الخروج منها، حتى إذا غضبت أمريكا خوفاً على مصالحها مع العرب.. حتى إذا حاربتنا أمريكا".
في القيادة العسكرية المصرية كان السؤال الذي يتردد بقوة أين السوفيت؟!.. صباح 6 يونيو يجتمع عبد الحكيم عامر مع السفير السوفيتي في لقاء عاجل، يصرخ عامر في وجهه أن "الأمريكان أعطوا لإسرائيل أحسن ما عندهم من سلاح، وأنتم أيها السوفيت تُؤخرون في طلباتنا ولا تعطوننا ما يوازي السلاح الأمريكي". فيتهرّب منه السوفيتي ويؤكد أن بلاده ستتحرك في مجلس الأمن لإصدار قرار بوقف إطلاق النار!
وأسرع عبد الناصر يُرسل رسالة خاصة إلى موسكو يؤكد للسوفيت أن مصر خسرت طائراتها، لكنها لم تخسر طياريها، وأنه -بدافع الصداقة العميقة بين القاهرة وموسكو- يُطالب السوفيت بمده فوراً بالطائرات. وجاءه الرد بأن موسكو وافقت على مد مصر بالطائرات، لكنها تفضّل أن تبعث بالطائرات داخل الصناديق إلى الجزائر، ومن هناك تتولى الجزائر شحنها إلى مصر، رغبة في تجنب استفزاز الولايات المتحدة.. وكان ذلك يعني ضياع أسبوع آخر!
7 يونيو.. أغرقوا ليبرتي!
راديو عمان لا يكف عن ترديد قبول الحكومة الأردنية وقف إطلاق النار؛ استجابة لقرار مجلس الأمن، ورغم ذلك فالجيش الإسرائيلي يواصل عملياته العسكرية بلا توقف.. في ذلك الوقت كانت المدمرة الأمريكية ليبرتي تتجسس على سير المعارك من مياه البحر المتوسط مرسلة كل ما لديها من معلومات دقيقة إلى واشنطن، الأمر الذي أشعر الإسرائيليون بأن هناك عيناً أمريكية تراقب تحركاتهم، هنا اتخذ موشي ديان قراراً لا رجعة فيه.. أغرقوا ليبرتي!
وهكذا هاجمت الطوربيدات الإسرائيلية المدمرة الأمريكية وغمرتها بنيرانها، على مرأى من مركز الاستطلاع اللاسلكي المصري الذي لم يفهم ما يحدث، وما الذي يدفع الإسرائيليون ليهاجموا حلفاءهم بهذا الشكل، وفي الصباح أعلنت الحكومة الإسرائيلية اعتذارها واستعدادها لتحمل أي تعويضات عن الباخرة وطاقمها!
الجولان تسقط
ورغم أن الحكومة الإسرائيلية كانت تفكر جدياً في قبول قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، إلا أنها رأت أن الفرصة الآن سانحة لأن تنتهي من كل أعدائها دفعة واحدة.. تحرّكت الجيوش الإسرائيلية لاحتلال القدس والضفة الغربية، وحتى لا يتركوا الجيش السوري مصدراً دائماً للإزعاج فقد انطلق الإسرائيليون ليحتلوا هضبة الجولان أيضاً وسقطت في أيديهم في ساعات.
وجاءت زيارة الرئيس الجزائري بومدين إلى موسكو يوم 12 يونيو؛ ليتبيّن الموقف السوفيتي المؤسف مع العرب.. بومدين كان صريحاً وأبلغ السوفيت بوضوح: "أنتم تتصرفون بأقصى درجات الضعف والآخرون يتصرفون بأقصى درجات القوة".
فضيحة عبد الحكيم عامر
أول تهديد بالانتحار قاله المشير عبد الحكيم عامر كان يوم 8 يونيو، فالرجل راح يصرخ مصرّاً أن قواته تحارب بالفعل في إيلات، وفي المساء أمسك مسدسه في يده وحاول إنهاء حياته، لكن رجاله منعوه، واتصل به عبد الناصر يرجوه "ألا يضيف الفضيحة إلى المصيبة"!
لكن هيكل لا يكتفي كعادته بسرد التاريخ بل يحلله ويُبدي فيه رأيه، وهو هنا يقدِّم لنا أهم أسباب النكسة.. أولاً أن الخطأ الأكبر خطأ مخابرات، أخطأت في تقدير قدرات العدو ومدى قواته على نحو مخيف. وثانيها خطأ في تصور مدى قدرة طائراته على توجيه الضربة الجوية، فلقد كانت كل توقعات القيادة المصرية أن الطيران الإسرائيلي لا يستطيع في ضربته تجاوز مطارات سيناء، غير مدركة أن أمريكا زودت الطائرات الإسرائيلية بخزانات وقود إضافية تمكنها من الوصول إلى العمق المصري. وثالثاً الظن الخاطئ بأن في إمكان القوات الجوية المصرية استيعاب الضربة الجوية الإسرائيلية والرد عليها، كما أن مصر لم تعرف أن إسرائيل حصلت من بريطانيا على خططها أيام حرب 56 بخصوص ضرب المطارات المصرية، وهي الخطة ذاتها التي نفّذتها إسرائيل لضرب مطارات مصر. ورابعاً أن أحداً في مصر لم يتصوّر حجم المعلومات المتوافرة عن قواتنا ومطاراتنا ومحطات الرادار في مصر لدى العدو، كما أن الخطأ السادس والأكثر غرابة أن التعليمات صدرت يوم 5 يونيو -وهو اليوم الذي توقّعه عبد الناصر بنفسه لبدء الحرب- بتقييد نيران المدفعية المصرية!
الطريق إلى الاستقالة
كان كل شيء ينذر بالشؤم لعبد الناصر منذ اللحظات الأولى للضربة الإسرائيلية.. عبد الحكيم عامر يُحاول إخفاء المعلومات عنه بشأن حجم الخسائر، وبدأ الخلاف بين الرجلين.. قال عبد الناصر بوضوح لعامر إن الثورة قد انتهت، وإنه عليهما أن يرتّبا الأوضاع في البلد ويتركا الحكم.. واتصل ناصر بهيكل في مكتبه يناقشه فيما ينبغي عمله، ورأى هيكل أنه لم يعد أمامه سوى الاستقالة، وهو ما رآه ناصر أيضاً، وطلب من هيكل أن يكتب له خطاب الاستقالة.
شعب غريب!
في اللقاء الذي جمع هيكل وناصر صباح يوم 9 يونيو اتفق الاثنان على ترشيح زكريا محيي الدين ليخلف عبد الناصر، ثم بدأ هيكل قراءة خطاب التنحي على مسامع عبد الناصر، وجاءت الجملة الشهيرة: "وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة، فإني على استعداد لتحمل نصيبي من المسئولية.." -كما كتبها هيكل- فأوقفه عبد الناصر وطالبه بتصحيحها من "نصيبي من المسئولية" إلى "تحمل المسئولية كاملة".
في السابعة مساءً أذاعت الإذاعة المصرية خطاب التنحي الشهير، لتتفجر الأوضاع في القاهرة، وتضطرب العاصمة المصرية بجماهير من المواطنين يجوبون الشوارع معترضين على تنحي عبد الناصر، ودخل النواب مجلس الأمن واعتبروا أنفسهم في اجتماع شرعي ملحين على مطلب عودة عبد الناصر، واقتحم المتحمسون بيت عبد الناصر وصعد بعضهم إلى غرفته يطلبون عودته فوراً، وتوالت البرقيات والبيانات الرسمية من رؤساء دول العالم على عبد الناصر تطالبه أن يعود، ولم تمضِ الليلة إلا وعبد الناصر يُعلن أنه سيذهب غداً إلى مجلس الأمة؛ ليناقش الشعب في قراره، واتصل بهيكل ليقول له: "إن هذا الشعب غريب.. تصورت أنه سينصب لي مشنقة في ميدان التحرير فإذا تصرفه عكس ذلك".
بعد الهزيمة
عاد عبد الناصر وبدأت عملية ترتيب الأوراق، وأعلن عبد الناصر استراتيجية المراحل الثلاث.. الصمود ثم الردع ثم التحرير.. وبدأت أولى الخطوات العملية لرد فعل النكسة في 21 أكتوبر 1967 عندما قام قاربان من قوارب الصواريخ المصرية بضرب المدمرة الإسرائيلية إيلات وإغراقها في دقائق بكل ما عليها ومن عليها، وكانت تلك بداية مرحلة جديدة في تاريخ السلاح في العالم، فقد بدأ بها عصر جديد دخلت به الحروب إلى عصر الصواريخ.
المقالان على بص وطل:

Thursday, June 11, 2009

أوباما في القاهرة.. ما لم تروه على شاشات التليفزيون!


صباح الرابع من يونيو 2009..
اليوم الذي تنتظره القاهرة بفارغ الصبر منذ أعلن الرئيس الأمريكي أوباما توجيه خطابه إلى العالم الإسلامي من القاهرة.. اليوم الذي يترقبه أكثر من مليار ونصف المليار مسلم هم هدف أوباما في هذا الخطاب.. اليوم الذي تتحدث عنه كل وسائل الإعلام منذ أكثر من أسبوعين، وتعدنا بعده بمزيد من الثرثرة تناولا للخطاب وتحليلا وتفحيصا له.. الرابع من يونيو 2009 هذا اليوم لن ينساه التاريخ!

بالملابس الرسمية بدأت أستعد مع أصدقائي للتوجّه إلى جامعة القاهرة.. تركت الكاميرا؛ لأني لم أكن واثقاً في أن الأمن قد يسمح لي بالدخول بها، لم آخذ سوى هاتفي المحمول وتأكدت أنني لا أرتدي ولا أحمل أي شيء معدني.. بدت شوارع القاهرة خالية على غير العادة في هذه الساعة المبكرة -حوالي الساعة التاسعة صباحاً- ولاحظنا أن الحافلة قطعت الطريق بسلاسة وبساطة دون أن نتعطل لحظة على عكس ما توقعنا.

وأخيراً بدت قبة جامعة القاهرة الشهيرة في الأفق، وتوقفت الحافلة وهبطنا لنأخذ مكاننا في الصف الطويل الواقف في قلب الميدان أمام البوابة الرئيسية لجامعة القاهرة.. يبدو الميدان مغلقاً تماماً ولا تسمح لأي سيارات بدخوله، فيما يتوالى وصول الصحفيين والطلبة حاملي الدعوات الرسمية إلى الميدان..

ووقفنا في الصف ونحن نشعر بأننا نقف في "طابور العيش" منتظرين دورنا.. نتحرك ببطء شديد نحو البوابة الأمنية الأولى قبل بوابة جامعة القاهرة.. يُشهر كل منا بطاقته الشخصية ودعوته الخاصة، ليراها أحد رجال الأمن قبل أن يسمح له بعبور البوابة إلى البوابة التالية.. لاحظ معي أن الدعوات لا تخلو من الأخطاء الإملائية في أسماء حامليها.. كان اسمي صحيحاً على دعوتي باللغة الإنجليزية، لكن الاسم بالعربية فقد حول اسم جدي من "عبد المحسن" إلى "عادل".. صديقي "فادي" تحوّل اسمه إلى "سامي" أيضاً على دعوته.. وهكذا!

أمام مدخل قاعة الاحتفالات الكبرى يقف رجال الأمن مع موظفي السفارة الأمريكية ينظّمون دخول الحضور.. السيارات التي تحمل لافتات "هيئة دبلوماسية" تمر من حين لآخر لتمر خلال صفوف الطلبة الطويلة.. وبعد البوابة الأمنية الأخيرة يتفرّق الداخلون.. القاعة الرئيسية في الطابق الأول مخصصة لكبار رجال الدولة وممثلي الأحزاب السياسية والدبلوماسيين وفئات مختلفة ودبلوماسيين أجانب من كل دول العالم.. في الطابق الثاني يقف الصحفيون ومراسلو وكالات الأنباء العالمية بالإضافة إلى أساتذة الجامعات.. الطابق العلوي مخصص بالكامل للطلبة، وهو ما اتجهنا إليه وكان لايزال شبه خالٍ، كانت الساعة التاسعة والنصف صباحاً..

أكثر من ثلاث ساعات قضيناها على المقاعد الخشبية غير المريحة نتابع ما يجري في صالة الاحتفالات الكبرى في انتظار الرئيس أوباما على أنغام موسيقى عمر خيرت التي تعالت في القاعة.. البعض يتسلّى بالدردشة مع مجاوريه.. بالنوم قليلاً في وضع غير مريح إطلاقاً، بالنظر إلى سيقان الفتيات الجميلات اللاتي أتين لحضور خطاب أوباما بالميكروجيب!

يتوالى حضور السادة المهمين في القاعة، ويتواصل تدفق الطلبة إلى الطابق العلوي.. من حين لآخر يخرج أحد الحاضرين متسائلاً عن الحمّام، فيرشده أحد رجال الأمن إلى الطابق السفلي.. والحمامات في قاعة الاحتفالات الكبرى لجامعة القاهرة -للأسف- لا تختلف كثيراً عن أي حمامات لأي هيئة حكومية.. الحمامات ضيقة جداً لا يمكن أن تصفها بالنظافة.. السلالم السفلية المؤدية إليها ليست في قمة النظافة كما رأينا القاعة ذاتها.. يبدو أن السادة المسئولين صرفوا الملايين على تنظيف ما يراه أوباما فحسب وما تنقله كاميرات التليفزيون أما ما عدا ذلك فلا يهم.

في الطابق العلوي يجلس الطلبة يبحثون بعيونهم عن المشاهير بين الجالسين في القاعة السفلى.. ها هو ذا عادل إمام يقف في منتصف القاعة يتحدّث مع إحدى الحسناوات.. الصفوف الوسطى تحمل شيخ الأزهر والقساوسة ورجال الدين بعماماتهم البيضاء والسوداء..

وعند الثانية عشرة والنصف بدأ توافد المسئولين إلى القاعة الكبرى، ومعها تعالت همسات الجالسين حولي تحدد شخصياتهم: عمرو موسى، بطرس غالي، فاروق حسني، صفوت الشريف، أحمد فتحي سرور.. أغلب الوزراء يتوافدون ليحتلوا الصفين الأول والثاني، ورأينا جمال مبارك يقف في مقدمة القاعة يتحدث مع شخصين، فيما توالى دخول عدد من الصحفيين الأجانب ليقفوا في مواجهة مسرح القاعة مباشرة، وتدفق للقاعة رجال المخابرات الأمريكية بالملابس الرسمية، ووقف أحدهم يطلب من الحضور ترك سماعات أجهزة الترجمة على المقاعد عقب انتهاء الخطاب!
وجاء أحد الأمريكان يختبر الميكرفون الذي سيتحدث فيه أوباما بعد دقائق.. وتكرر الاختبار أكثر من أربع مرات حتى صارت الساعة الواحدة ظهراً واقتربت ساعة الصفر.. يلاحظ الكل الآن أن شبكة الاتصالات اللاسلكية قد سقطت ولم تعد أجهزة الموبايل قادرة على الاتصال أو الاستقبال.. إن اللحظات التاريخية على وشك البدء!

في الواحدة وعشر دقائق تماماً تعالت الهمسات بأن هيلاري كلينتون دخلت القاعة، ورأيناها تتقدم نحو الصف الأمامي ووقف أحمد فتحي سرور ليصافحها، قبل أن يدخل الرئيس الأمريكي القاعة من اليمين ويصعد بخطوات سريعة إلى المسرح ليقف أمام المنصة وسط عاصفة من التصفيق انتابت الجالسين، ووقفنا جميعا نحيي الرئيس الأمريكي الشاب الذي بدأ خطابه على الفور.

إن ما نراه أمامنا بعيوننا يراه مئات الملايين حول العالم الآن!

***

لم تمر الدقيقة الأولى من خطاب أوباما حتى سمعناه يلقي علينا التحية باللغة العربية "السلام عليكم"، فدوت القاعة كلها بالتصفيق الحاد، ثم واصل أوباما خطابه بنفس النبرة الواثقة عارضا نقاط الخطاب السبع مرتجلا خطابه دون أن ينظر لأى ورقة تلخص خطابه ودون أن يتوقف لحظة ليفكر في النقطة التالية، كأنه يحفظ خطابه عن ظهر قلب فعلا.. -لاحقا سنعرف أنه كان يقرأ الخطاب عبر شاشة من الكريستال السائل غير مرئية للجميع.

ها هو ذا أوباما الذي انتزع إعجابنا الشديد في أول خطاب له بعدما فاز بمنصب الرئاسة، فوقف أمام أكثر من مليوني أمريكي يشكر من صوت له ومن لم يصوت له بعد.. ها هو ذا أوباما الذي كان محور حديثي مرارا مع أصدقائي الأمريكان أيام ما كنت في أمريكا نراقب المرشح الأمريكي الأسمر وخطواته الوئيدة لحشد التأييد في الولايات الأمريكية المختلفة في منافسة شديدة مع هيلاري كلينتون، التي تجلس الآن أمامنا في الصف الأول تستمع معنا لخطاب أوباما في القاهرة.. هل تراها تتخيل نفسها الآن في مكانه لو كانت قد فازت بمقعد الرئاسة؟

ويمكن أن نقسم انطباعات الحضور داخل قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة ردا على خطاب أوباما وفقا للتصفيق الذي انطلق مرارا وتكرارا داخل القاعة، ولم يكن التصفيق في كل مرة نابعا من كل الحضور، إنما يتوقف حسب ما قاله أوباما ومدى استحسان المستمع له.. الحضور لم يصفقوا حينما أكد أوباما حق إسرائيل في الوجود، لكنهم صفقوا بحرارة حينما عارض استمرار بناء المستوطنات الإسرائيلية.. صمتوا جميعا حينما تحدث عن 11 سبتمبر وحرب أفغانستان لكنهم صفقوا بشدة عن حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة!

استشهادات أوباما بالآيات القرآنية كانت تملأ القاعة بالتصفيق الحار، التي كانت تبدأ قبل أن يكمل أوباما عبارته، وكذلك حديثه الطويل في بدايات خطابه عن انتمائه لأسرة مسلمة وشأن المسلمين الأمريكان في بلاده ومدى ارتباطهم بالتاريخ الأمريكي.. حينما تحدث عن القدس وذكر مكانتها التاريخية في الأديان السماوية كمكان صلى فيه موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعا السلام في قصة الإسراء -كما قال بالحرف الواحد.. حينها اشتعلت القاعة بالتصفيق الحار جدا!

في أحيان أخرى كان الصمت التام يخيم على القاعة.. الحديث عن حرب أفغانستان ومبرراتها.. حرب العراق والتأكيد على أن الشعب العراقي اليوم أفضل كثيرا عما كان عليه في عهد صدام حسين.. التطرق للعلاقات التاريخية بين إسرائيل وأمريكا.. التأكيد أن الوطن اليهودي حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها.. الهولوكوست والستة مليون يهودي الذين قُتلوا أكثر من تعداد إسرائيل كلها اليوم.. رفض المقاومة الفلسطينية القائمة على العنف -للمرة الأولى يصف رئيس أمريكي المقاومة بالعنف وليس بالإرهاب..
حينما بدأ أوباما حديثه عن الديمقراطية خيم الصمت التام على القاعة السفلى فيما تعالى التصفيق في القاعة العليا.. ثم اتجه إلى حرية الأديان وذكر بالاسم الأقلية المارونية في لبنان والأقباط في مصر، وحينها تعالى تصفيق متواضع جدا -لا شك أن أغلبه من الأقباط الحاضرين في القاعة.. نفس الشيء تكرر عندما انتقل إلى حقوق المرأة..

ولا شك أن أوباما استطاع تحريك خيال المئات الجالسين في القاعة ومئات الملايين حول العالم وهو يرسم لنا ملامح العالم الجديد الذي يسعى لتشكيله.. عالم لا يهدد فيه المتطرفون الآخرين، وتعود فيه القوات الأمريكية إلى بلادها.. عالم يعيش فيه الإسرائيليون والفلسطينيون آمنين كلّ في دولته.. عالم تستخدم فيه الطاقة النووية للأغراض السلمية.. عالم تخدم فيها الحكومات حقوق مواطنيها وتحترم أطفالها.. "هذا هو العالم الذي نسعى إليه، لكننا نستطيع تحقيقه معا"!.

وكما رسم لنا أوباما الحلم الأمريكي الجديد، قدم لنا القواعد الأمريكية الجديدة بمنتهى الحكمة.. "من الأسهل أن تبدأ حربا عن أن تنهيها".. "أسهل أن تلوم الآخرين بدلا من تنظر للإمام".. "لمَ ننظر لما يختلف فيه الآخرون عنا بدلا من النظر لما يجمعنا سويا".. في كل جملة من هذه الجمل كان بوسع الحاضرين أن يملأوا القاعة تصفيقا إلى المساء لكنهم فضّلوا أن يستمعوا إلى الجملة التالية.

وأنت جالس تستمع إلى هذا الخطاب الدقيق المنظّم تشعر بأنك تشاهد فيلما وثائقيا رائعا يستعرض نقاط الخلاف بين الأمريكان والمسلمين ببراعة ودقة شديدة عارضا وجهتي النظر المختلفتين.. أفغانستان.. العراق.. أحداث 11 سبتمبر.. التعذيب في السجون الأمريكية.. معتقل جوانتانامو.. المقاومة الفلسطينية.. الديمقراطية.. حقوق المرأة.. التنمية الاقتصادية.. كل ذلك في ترتيب منظم بديع يحسن أوباما اختيار الكلمات والتعبيرات حتى أنه ابتعد تماما عن المفردات التي كانت ميزة خطابات جورج بوش وأهمها "الإرهاب"، فلم يذكر أوباما الكلمة مرة واحدة، ولم يربط بين التطرف والإسلام إطلاقا، كلها عوامل دفعت أحد الجالسين في القاعة -ذكرت الدستور أنه الفنان شريف منير- أن يهتف معبرا عن مشاعر المئات من الجالسين قائلا: "بنحبك يا أوباما"، ورد أوباما: "شكرا لك"!

وانتهى خطاب أوباما بعبارة "وعليكم السلام" باللغة الإنجليزية هذه المرة، ليقف كل الحضور يحيون الرئيس الأمريكي وتعالت الهتافات باسمه وسط عاصفة من التصفيق ورفع العشرات أياديهم يلوحون لأوباما فبادلهم أوباما السلام مرات عديدة حتى اتجه إلى يسار المسرح واختفى عن الأنظار.

***

على عكس ما توقعت تم السماح للكل بالتحرك من مقعده وترك القاعة.. صحيح أن الزحام الشديد جعلنا نقف بلا تحرك فوق السلالم، قبل أن نصل للطابق الأول حيث يتدفق كبار رجال الدولة من القاعة.. وشاهدنا جميعا الوزراء والدبلوماسيين والفنانين يحتكون بنا ويمشون جوارنا.. فور خروج عادل إمام مع يسرا من القاعة تزاحم الطلبة حوله وحاصروه تماما وطلبوا توقيعاته على دعوات خطاب أوباما وهي الورقة الوحيدة التي يحملونها.. تخترق مراسلة المحور الحصار حول عادل إمام وتسأله عما لم يتطرق إليه أوباما في حديثه فيرد إمام: "هو اتكلم في كل شيء بصراحة" فتصرّ المراسلة وتسأل عن الموضوع الذي نسي أوباما تناوله فيرد إمام: "قضية سوزان تميم"!.

وزير الثقافة يمضي مسرعا من القاعة، فيستوقفه بعض الطلبة ويصافحونه ويقول له أحدهم: "هتشرفنا إن شاء الله في اليونسكو"، فيبتسم فاروق حسني ويشكره.

عمرو موسى يحاول الفرار من كاميرات الصحفيين، فيستوقفه مراسل قناة العربية عند سيارته، فيدلي برأيه على عجل أن خطاب أوباما متوازن، ثم يقفز إلى سيارته وينطلق به سائقه الخاص.

أيمن نور وحده وقف يتحدث طويلا مع المراسلين على سلالم مدخل قاعة الاحتفالات الكبرى، ويتبادل حديثا آخر مع مؤيديه ومع الطلبة من حوله حتى أنه أملى رقم هاتفه الخاص للمحيطين به عندما طلبوه.

عندما انفضّ المولد واختفى السياسيون بدأت مغادرة جامعة القاهرة.. في الميدان المواجه للجامعة كان رجال الأمن ينتشرون بغزارة، وقد أغلقت الطرق تماما.. عند المسلة يقف خمس من الأمريكيات يحملن لافتات تطالب بإنهاء حصار غزة، وزعيمتهن تمسك ميكروفونا تطالب فيه الرئيس الأمريكي بزيارة غزة.. اقتربت منها وتحدثت معها فعرفت أنها من منظمة سلام أمريكية تدعى كود بينك، وأنها أتت على التو من غزة.. سألتها عما إذا كانت قد حصلت على تصريح من الجهات الأمنية فقالت إن الجهات رفضت منحها هذا التصريح.. وبرغم ذلك لم يقترب منها أحد رجال الأمن ليمنعها مما تفعله.. هل لو كان مكانها بعض المصريين كان الأمر مختلفا؟

هنا حان وقت العودة.. كما هو واضح المنطقة مغلقة تماما ولا يوجد أدنى أثر لأي نوع من وسائل الانتقال.. اضطررت للسير مع صديقي طريقا طويلا حتى انتهى الحصار ورأينا التاكسيات.. أخذنا التاكسي من الجيزة في طريقه للزمالك، لكننا ما إن عبرنا كوبري قصر النيل حتى فوجئنا بغلق الطرق المؤدية لقلب الزمالك تماما.. اضطر التاكسي لتركنا في عز الحر، ونصحنا السائق بأخذ الطرق مشيا.. "هما لو عايزين يقفلوا الزمالك ماحدش هيعرف يدخلها".

فشلت كل الطرق في إقناع أي سائق تاكسي آخر باكتشاف أي طريق آخر إلى الزمالك، حتى فوجئنا بفتح الشوارع فجأة.. ركبنا سيارة تاكسي ومضت بنا جوار نادي الجزيرة حيث لاحظنا صفا طويلا من عساكر الأمن المركزي على امتداد سوره.. وفي السماء رأينا طائرة هليكوبتر تحلق مبتعدة مسرعة.. يبدو أن أوباما قد غادر نادي الجزيرة منذ لحظات في طريقه إلى الأهرامات.. مع السلامة يا أوباما!

المقال على بص وطل:

http://www.boswtol.com/5gadd/nsahsah_251_036.html

Monday, June 1, 2009

بص وطل : هكذا رأيت إسرائيل



لم يكن القرار الذي اتخذه محمد مصطفى -الصحفي بأخبار اليوم- سهلاً.. حينما رأى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يُصافح رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين على شاشات التليفزيون، اتخذ قراره بالسفر إلى إسرائيل؛ ليرصد الأحداث بنفسه في قلب الأراضي المحتلة، ثم قدّم مغامرته الصحفية المثيرة في كتابه الصادر عن أخبار اليوم "هكذا رأيت إسرائيل".

ورغم أن الكاتب سافر عشرات المرات إلى إسرائيل على الورق ومن خلال قراءاته الكثيرة عن إسرائيل، إلا أنه شعر أن هذه المرة تختلف، عندما هبطت به الطائرة في تل أبيب أحسّ أن بابها ينفتح على عالم مجهول مليء بالأسرار والغموض.

يُؤكد الكاتب أنه في كل رحلة يقوم بها، يعمل بالمثل الإنجليزي القائل: "إن المسافر يجب أن تكون له عينا صقر ليرى كل شيء.. وأن تكون له أذنا حمار ليسمع كل شيء.. وأن يكون له ظهر جمل ليتحمّل أي شيء.. وأن تكون له ساقا معزة لا تتعبان من المشي".

في مقر السفارة المصرية في تل أبيب كانت بداية رحلته، وكان في استقباله السفير المصري محمد البسيوني، الذي رتّب له لقاءه بكبار رجال الدولة في إسرائيل، لتتوالى منذ اللحظات الأولى لزيارته لقاءاته الصحفية، وإن فضّل أن تكون القدس مقر إقامته وليس تل أبيب.

كان اتفاق "غزة - أريحا" هو الدافع الأول لقيام الكاتب بهذه الرحلة، فقد كان محوراً مهماً وأساسياً في كل حواراته مع المسئولين على الجانبين العربي والإسرائيلي، ومن واقع اندماجه مع المجتمع الإسرائيلي يرى الكاتب أن المواطن الإسرائيلي صار في رغبة أكيدة لإنهاء الحرب مع جيرانه العرب، ويرى أن إسرائيل فقدت بالفعل كل كبريائها وعنجهيتها.. ولابد أنهم يشعرون حينها بالاضطراب، إذ إن مطلوباً منهم -بعد الاتفاق- تقبّل فكرة تحوّل منظمة التحرير الفلسطينية من عصابة من السفّاحين -كما كانوا يسمّونها دائماً- إلى أقوى حليف لهم ضد التطرّف، حتى إن أحد الصحفيين الأوروبيين علّق على ذلك قائلاً: "إن هذه التحوّلات السريعة طيّرت عقول الشباب الإسرائيلي".

تأتي زيارة محمد مصطفى إلى إسرائيل في هذه الأجواء المضطربة، الذي يعرّفها بأنها: "الانقلاب الكبير الذي أدخل الصراع العربي الإسرائيلي مرحلة مغايرة تماماً في تاريخه".

ويلتقي مصطفى بالرئيس الإسرائيلي حينها عايزرا وايزمان، الذي يتحدّث معه عن مستقبل السلام في المنطقة بين العرب والإسرائيليين، مُبدياً إعجابه بالسادات الذي يراه رجلاً ذكياً واقعياً بعيد النظر، وقال إنه لم يُصدق أنه حقاً يريد السلام، عندما أعلن عن رغبته في زيارة القدس، وعلّق قائلاً: "لقد كانت وجهة نظر السادات أن الحرب والسلام في يد مصر، وكان متأكداً أن العرب في النهاية سيتّجهون للسلام، وهو ما أثبتته الأيام".

في الأراضي المحتلة أنت معرّض للخطر في أي لحظة.. عندما كان مصطفى عائداً إلى الفندق في سيارة صديقه من الضفة الغربية، فوجئ بطلقات نارية بالقرب من السيارة ثم استوقفتهم دورية إسرائيلية فحصت أوراقهم وطلبت منهم الانتظار؛ حتى ينتهى الاشتباك بين أفراد الشرطة الإسرائيلية وبين رجال حماس، وظلّوا ينتظرون في السيارة لمدة ساعتين وطلقات الرصاص لا تنقطع لحظة.

في طريقه لزيارة المسجد الأقصى يجد الكاتب نفسه فجأة أمام مجموعة من الرجال يضعون الطواقي السوداء على رؤوسهم، وقد طالت لحاهم وارتدوا الملابس التي تُشبه ملابس السهرة باللون الأسود، وراحوا يُتمتمون بكلمات غير مفهومة ووجوههم متّجهة إلى حائط كبير، اكتشف الكاتب أنه حائط المبكى الشهير.

ويزور الكاتب منطقة بحرية برية ليذهل بحجم السياحة الكبير جداً هناك، لدرجة أن عشرات الفنادق التي أقيمت على حافة البحيرة تكتظ بالسيّاح، وحركة المطاعم والمحلات الكثيرة بالمدينة سريعة وحيوية للغاية أما الأسعار فهي باهظة جداً.

إلى هضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل شدّ الكاتب الرحال، ليرى نفسه المواقع السورية الحصينة التي احتلتها إسرائيل، وسمع أحد المرشدين السياحيين الإسرائيليين يقول: "من هنا كان يقذفنا السوريون بالمدافع والحجارة، وكل شيء، كانوا يملكون القمة، وكنا نقبع في السفح، واليوم يطالبوننا بالتخلي عن الجولان.. إنهم مجانين!".

وراح الكاتب يطوف المستوطنات الإسرائيلية فوق الجولان، مذهولاً بكمّ التجهيزات ووسائل الحياة العصرية وأدوات الترفيه بكل أنواعها من مطاعم وملاعب وديسكو وغيرها التي تزخر بها هذه المستوطنات، فعندما تشهد كل هذه التجهيزات في المستوطنات لا يمكن أن تصدّق أن الإسرائيليين قد شيّدوها كي يتركوها.. ومِن فوق الجولان رأى الكاتب الحدود الأردنية وجزءاً من الأراضي اللبنانية، وتساءل في حزن: كيف استطاع الإسرائيليون احتلال كل هذه الأراضي؟!..

"هكذا رأيت إسرائيل" كتاب مثير ينقل لك الواقع السياسي بين الإسرائيليين والفلسطينيين في مرحلة خطيرة من الصراع العربي الإسرائيلي أثناء توقيع اتفاق "غزة - أريحا"، وإن لم يتعمّق الكاتب كثيراً في الحياة اليومية للإسرائيليين أو الفلسطينيين.

المقال على بص وطل:

http://www.boswtol.com/5gadd/nsahsah_250_06.html