Wednesday, March 23, 2016

«آخر أيام المدينة».. خالد الذي يبحث عن نهاية كل شىء

لسنوات طوال انتظر الوسط السينمائي المصري فيلم تامر السعيد "أخر أيام المدينة"، ليعرض أخيرا خلال قسم "المنتدى" في الدورة السادسة والستين لمهرجان برلين السينمائى أحد أعرق مهرجانات السينما العالمية وأكبرها من حيث عدد المشاهدين، ليكون ممثلاً عن السينما المصرية في المهرجان الكبير.
 مثلما قضى المخرج الأمريكي ريتشارد لينكلتر (قبل الشروق، قبل الغروب) عشر سنوات ليصنع تحفته (الصبا Boyhood ) والذى نال عنه جائزة الدب الفضي لأفضل مخرج في مهرجان برلين العام الماضي، قضى تامر السعيد أكثر من ثماني سنوات بين الكتابة والتصوير والمونتاج ليعرض لنا فيلمه الروائي الطويل الأول بعد تجارب في الأفلام الروائية القصيرة والوثائقية. 
يستمد الفيلم أهميته من الدعاية الكبيرة التى نالها خلال سنوات صناعته الثمانية، من وجود ممثل عالمي مثل خالد عبد الله (United 93 ، The Kite Runner)، وانضمام عدد من المنتجين الأجانب لفريق الفيلم تزامناً على حصوله على عديد من المنح الإنتاجية العربية والأجنبية.      
   والقصة قد تبدو للوهلة الأولي تقليدية، فالبطل خالد (خالد عبد الله) يريد أن يصنع فيلماً تسجيليا بكاميرته، وينتقل للتصوير مع أصدقائه ومعارف والده وأمه، لكن ما هذا إلا خيط واحد يربط حكايات من حياة البطل، فأمه مريضة تنتقل للإقامة في غرفة بمستشفي خاص، وحبيبته ليلى تريد السفر، وهو يبحث عن شقة للإيجار لينتقل للاقامة فيها، بينما تربط صداقة قديمة بينه وبين صديق لبناني مقيم في بيروت، وصديق عراقي مقيم في برلين. 
"فيلم طويل عن الحزن" كان العنوان المبدئي للفيلم قبل "أخر أيام المدينة"، ورغم خصوصية الحزن في هذا الفيلم، إلا أنه يحمل لمسات كوميدية لا بأس بها، بين السمسار الذي يخدع البطل الباحث عن شقة، وحديثه الملاوع المعتاد من السمسارين، وسائق التاكسي الكاره للمظاهرات والزحام ويحب مبارك.   لا يذهب البطل خالد بعيدا، هو يعرف مكانين فحسب يذهب إليهما طوال الفيلم، وسط القاهرة – وسط البلد- حيث يسكن ويصور فيلمه ويقابل أصدقائه، والمستشفي حيث تتلقي أمه العلاج..وبين المكانين يستقل التاكسي الأسود العتيق..
تبدو وسط البلد حاضرة بقوة في مشاهد الفيلم، بين مباني القاهرة الخديوية، الزحام، مظاهرات نقابة الصحفيين – في العام الأخير لحكم مبارك، عربات الأمن المركزي، والملصقات الدينية على المصاعد العتيقة وصوت الأذان من المساجد.
 يبدو البطل تائها في عالمه، يصنع فيلماً تسجلياً لا ينتهي، يبحث عن شقة للإيجار لا يجدها، يحاول أن يحب فتاة ستتركه وتسافر للخارج، يزور أمه المريضة التى لا علاج لها، كل شىء مؤجل، كل شىء بلا نهاية، لا حلول لهذه المشكلات..فقط لو فكر في الهجرة كما فعل صديقه العراقي الذي ترك بغداد إلى برلين أو كما فعلت حبيبته ليلى..لكنه مرتبط بفيلمه ومدينته وأمه..ولهذا يبقى الحل معلقاً.     
  لا حدود في "أخر أيام المدينة" بين الفيلم الروائي والفيلم التسجيلي، بين ما هو مكتوب مسبقا في السيناريو وما تم ارتجاله من الممثلين، بين المشاهد المصورة في بيت البطل – وهو بالمناسبة بيت المخرج الحقيقي، وبين المشاهد التسجيلية لمظاهرات المحتجين وسيارات الشرطة واحتفالات المصريين بالفوز على الجزائر في مباراة لكرة القدم..لا يريد السعيد أن يحصر انتمائه للقاهرة، بل يمتد هذا الانتماء للعالم العربي – عبر بيروت وبغداد، وانتمائه للعالم أجمع – من خلال برلين، فالمدن الثلاثة تجمعها ذكريات الحرب بين الحرب الأهلية وحرب الخليج والحرب العالمية الثانية.  
 كما أرخ الفيلم لوسط البلد، أرخ أيضا للعام الأخير من حكم مبارك ، وكأنه يتبأ بالثورة التى على وشك الوقوع، وإن كان يحسب للفيلم ومخرجه عدم استغلالهم للثورة ذاتها أو إقحامها في الفيلم..تبدأ الأحداث في ديسمبر 2009، حيث تنحصر الاحتجاجات في مظاهرات محدودة على سلم نقابة الصحفيين والهتافات المنددة بحكم مبارك، وحيث لا يخرج أغلب المصريين للشارع سوى للاحتفال بفوز المنتخب المصري بمباريات كرة القدم، لاسيما بعد فوزه على الجزائر في كأس الأمم الإفريقية، ومن حين لأخر يعلو صوت الراديو لنسمع الأخبار حيث يهنأ الرئيس المنتخب – في لمسات متكررة تربط بين السياسة وشغف المصريين بالكرة.       
  هذا فيلم شخصي أكثر من اللازم، واقعي أكثر من اللازم، يحمل روح مصرية خالصة، رغم تنوع أحداثه وأبطاله بين بيروت وبغداد وبرلين، يقدم الكثير من العالم الفريد لمخرجه، لذلك فلا مشكلة أن تحب الفيلم أو تكرهه، مثلما قد تحب شخصاً أو تنفر منه، فلهذا الشخص عالمه الخاص بمفرداته وقصصه وعلاقاته، وكذلك "أخر أيام المدينة". ارتباط كل من تامر السعيد وخالد عبد الله بالثورة المصرية يبدو واضحاً، فالأول يقدم فيلماً عن أوضاع مصر قبل الثورة ونري فيه الظروف التى أهلتنا للثورة، بينما رأينا الثاني بطلاً مرتبطاً بميدان التحرير وأحداث الثورة في الفيلم الوثائقي المرشح لجائزة الأوسكار "الميدان"، لكن تبقي أهمية "أخر أيام المدينة" في كونه يرصد القاهرة قبل الثورة، ويقدم لنا بتلقائية الأسباب التى أدت للثورة المصرية، وكأن صناعه يتبؤون بأى "شيئا ما سوف يحدث"، مثلما فعلها يوسف شاهين وخالد يوسف بشكل مباشر في "هي فوضي" ومحمد أمين بشكل غير مباشر في "بنتين من مصر" –وإن كانا قد عرضا بالفعل قبل ثورة يناير. 
عند مشاهدتي للفيلم كان في ذهني أن هذا الفيلم تم تصويره معموجة  التجارب" المستقلة "الأولي في السينما المصرية التى قدمها أحمد عبد الله في (هليوبوليس) وابراهيم البطوط في (عين شمس)، وهي تجارب لابد أن تقارن في رأيي بـ(أخر أيام المدينة)، فالأول قدم لنا حي مصر الجديدة من خلال مجموعة قصص متزاوية، والثاني قدم حي عين شمس برؤية مختلفة، وهو الفيلم الذي شارك تامر السعيد نفسه في كتابته وأداه بصوته، مثلما ظهر ممثلاً في (هليوبوليس)، وبالتالي يأتي (أخر أيام المدينة) كالحلقة الثالثة في ثلاثة أفلام مستقلة عن القاهرة، وإن تأخر كثيراً في عرضه.

«نوارة».. عن الحلم الذي صار كابوسًا

هل خمسة أعوام كافية حتى تقدم لنا الثورة المصرية أفلاماً روائية فيها من النضج الكفاية لرسم مصائر طبقات المجتمع المصري المختلفة؟.. في فيلم "نوارة" لهالة خليل – والذي افتتح فعاليات مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية- محاولات عديدة لطرح الأسئلة والبحث عن إجابات بخصوص الثورة.

 بسبب كونه آخر الأفلام الروائية التى أنتجت عن ثورة يناير، ربما يكون هو أكثر نضجا، وأكثرها ابتعادا عن أرض الثورة، فلم ينزل أبطاله ميدان التحرير، ولم يهتفوا في المظاهرات أو حتى يشاركوا بأي صورة في أحداث الثورة، اللهم إلا في احتفالات التنحي كما ورد على لسان نوارة "بقا احنا نقدر نشيل الريس؟!" نوارة – منة شلبي – الفتاة الفقيرة التى تنتمي إلى عشوائيات القاهرة، وتعمل في فيلا داخل كومبوند فاخر لدي أسرة الوزير السابق أسامة باشا– محمود حميدة- وزوجته شاهندة – شيرين رضا، ومهمتها هي تنظيف الفيلا كاملة وإعداد الطعام للكلب "بوتشي"، وبين عالم العشوائيات شديد الفقر وعالم الكومبوند شديد الثراء تأتي نوارة وتذهب كل يوم في رحلة البحث عن الرزق، لكن المختلف هنا أن الثورة قد قامت، وأن الفقراء صار بوسعهم أن يحلموا بالثراء، وأن الأغنياء من رموز النظام السابق لم يعودوا يشعرون بذات الأمان.

 في عالم نوارة البسيط، كل شىء معقد.. فالماء لا يصل حيها الفقير، وعليها أن تحمل الماء في الجرادل بجسدها الواهن لتنقله لبيتها، وخطيبها علي – أمير صلاح الدين – لا يستطيع أن يوفر لها بيتاً يجمعهما، وقد توقف حال محله الصغير بعد الثورة، وجدتها –رجاء حسين - مريضة تخاف أن تموت ولا يجدوا ماءً لغسل جسمها، وحماها مريض لا يجد سريراً في المستشفي الحكومي لإجراء عملية جراحية ستكلفه عشرة ألاف من الجنيهات في مستشفي خاص.. 

لكن الثورة قد قامت، والتليفزيون يبث أكاذيبه ليداعب خيال الفقراء، فالثراء قادم والأحلام صارت ممكنة. 

على الجانب الآخر لا يصدق الوزير السابق أسامة باشا – محمود حميدة في أداء مميز كالعادة - أن الثورة ستطوله، فهي مجرد هوجة وستنتهي"فوضي" كما يسميها، والفوضي لا يمكن أن تمسه، بينما زوجته شاهندة تقدم على الهروب إلى لندن، حيث ذهب جيرانهم –وكأن عالم الكومبوند بأكمله من الفاسدين ورموز نظام مبارك.. لكن حالة الإنكار التى يعيشها أسامة تنتهي عندما يصدر النائب العام قراره بالقبض على مبارك ونجليه، فيقرر الفرار مع أسرته إلى الخارج، وتصر شاهندة أن يبقى الحال على ما هو عليه في الفيلا حتى لا يلاحظ أحد غياب الأسرة الثرية، فلا بد أن تبقى نوارة في الفيلا، تنظفها كل يوم، وتقدم الطعام للكلب، وأن يغسل البواب – أحمد راتب- السيارات كل صباح. 

التطور الدرامي لسيناريو "نوارة" هو التطور الدرامي للثورة المصرية، بين أحلام الفقراء التى تصل لأقصى طموحاتها، عندما يسقط النظام ويتحدث الإعلام عن الأموال الطائلة التى هربها رموز النظام السابق خارج مصر، وكيف سيحصل كل مصري على "200 ألف من الجنيهات" عند توزيع الأموال العائدة، إلى نهاية الفيلم عندما يتحول حلم البطلة إلى كابوس، فتسقط هي الفقيرة الشريفة التى لم تسرق مليماُ ولم تنهب شيئاً في براثن الشرطة، بينما يفر سيدها الوزير السابق المختلس إلى لندن مع أسرته لينعم بحريته. 

تعددت الخيوط الدرامية في الفيلم ما أفقده الكثير من وحدته، بين قصة الحب الصعبة بين منة شلبي وخطيبها –زوجها رسميا، ومعاناتهم في البحث عن عش الزوجية، وعلاقة الخوف ثم الصداقة بين منة والكلب "بوتشي"، وحماها المريض الذي يحتاج إلى المال لإجراء العملية الجراحية، وشقيق الوزير الذي يهاجم الفيلا بحثاً عن الأسرة الهاربة حتى لا يسقط وحيدا في تهم الفساد، ليضرب نوارة في مشهد صادم. 

كما أسرفت هالة خليل في تكرار نشرات الأخبار وحلقات برامج التوك شو، موثقة لنا تلك الشهور القليلة التى تلت ثورة يناير، ومركزة في الوقت ذاته على أموال رموز نظام مبارك، وكأن المصريون قد قاموا بالثورة واهتمامهم ينصب على نصيبهم من ثورات البلد المنهوبة فقط، وقد بدا أن كل ما تحدث عنه الإعلام في هذه الشهور الخطيرة في تاريخ مصر هو معاقبة نظام مبارك والانتقام من رجاله فقط. 

يبقى أجمل ما في "نوارة" هو الأداء المميز لـ"نوارة" – منة شلبي – نفسها، تلقائيتها الشديدة في الحديث بأسلوب فتاة مصرية فقيرة من قلب العشوائيات، خوفها الأنثوي الفطري من نباح الكلب الضخم وحنانها عليه عندما صارا صديقين، ضحكاتها الصافية التى تتزامن دموع أمها وهما يتحدثان عن حلم الأم لزيارة بيت الله الحرام، وصمودها العنيد أمام إلحاح خطيبها لممارسة الحب في الفيلا الخالية التى تركها أصحابها. 

قد تكون النهاية صادمة لكثير من المشاهدين، عندما تدفع نوارة ببساطتها وطيبتها ثمن الثورة، فتُتهم بالشرقة والزج بها في عربة البوكس، ولكن أليس ذلك هو مصير الثورة المصرية بعد خمسة أعوام من قيامها؟ ألم يفقد البسطاء وظائفهم ويتحول الثوار إلى عملاء ويحصل الفاسدون على البراءة ويقبع البسطاء خلف القضبان بينما لا تزال أموال رموز النظام السابق في أمان؟ -

رابط المقال على اليوم الجديد