1
اليوم أقضى ليلتى مع الكونغو!
غدا أكون مندوب المملكة المتحدة فى لجنة صنع السلام التابعة للأمم المتحدة..أو بمعنى أدق نموذج القاهرة الدولى لمحاكاة الأمم المتحدة المعروف باسمCIMUN..
تعيد لى نماذج الأمم المتحدة ذكريات جميلة للأمم المتحدة الحقيقية كما رأيتها فى نيويورك..مبنى الأمم المتحدة الأزرق الذى يشبه علبة الكبريت إذا رأيته من بعيد..صالة الاستقبال الواسعة بمعرض الرسوم الكاريكاتيرية وشعار الأمم المتحدة المحروق – الذى يخلد ذكرى تفجير مبنى الأمم المتحدة فى العراق- والوجوه البيضاء والصفراء والسوداء من كل أجناس الأرض..محاضرات السياسة وجلسات مجلس الأمن المغلقة وقاعات الاجتماعات المثيرة للاهتمام..هذا الشعور المهيب بان فى قلب المنظمة التي تحدد مصائر الشعوب..كل هذه ذكريات جميلة أستعيدها كلما ذكر اسم الأمم المتحدة أمامى!
وها نحن الآن نخوض الأمم المتحدة على طريقة نماذج المحاكاة..قضيت وقتا طويلا فى المكتبة محاولا أن أذاكر..أن اعرف لماذا جاءت الأمم المتحدة بقواتها الدولية الى الكونغو..لماذا يقتلون بعضهم البعض هناك..لماذا أرسلت مصر بقوات من جيشها هناك..لماذا تقتل النساء والأطفال والشيوخ بلا ذنب فى
أرض أخرى ليس بها عربا ولا يهودا..أسئلة كثيرة كانت تملأ ذهنى وأنا أقرأ الكثير عن
MONUC
أو بعثة الأمم المتحدة إلى الكونغو الديمقراطية،و للأسف لم أجد لها جوابا شافية..مازلت لا أعرف لماذا تتقاتل القبائل فى هذا البلد الافريقى الغنى بالثروات..ومادامت الأمم المتحدة هناك لماذا يظل الصراع مستمرا..لماذا لا أعرف أنا شيئا عن هذا الصراع رغم مئات الألاف الذين ماتوا..هل أنا حقا جاهل أم أن الأمر حقا ليس بهذه الأهمية؟
2
منذ الصباح الباكر بدأت التساؤلات تتعالى فى الجامعة..عدد كبير من الطلبة يمشون فى الجامعة بالملابس الرسمية..أولاد ببذلات سوداء أنيقة..البنات بملابس رسمية منها ما تلفت الأنظار بجيباتها القصيرة أحيانا القصيرة جدا أحيانا أخرى..ثم جاءت الساعة العاشرة ليذهب السادة الدبلوماسيين الى قاعات الاجتماعات لتبدأ فعاليات المؤتمر الحادى والعشرين لمحاكاة الأمم المتحدة.
فى مجلسنا لاحظت عددا من الوجوه الجديدة التى لم أرها من قبل فى الجلسات التحضيرية للمؤتمر..وعرفت أنهم قادمون خصيصا من الولايات المتحدة لحضور المؤتمر..لم أكن أتصور المؤتمر بكل هذه الأهمية التى تدفع شابا أمريكيا أن يترك حياته ودراسته ومشاغله فى أمريكا ويدفع مئات الدولارات ويأتى إلى القاهرة ليلعب هذه اللعبة الممتعة معنا.
أعجبنى الأداء المتحمس لمندوب السلفادور..كان شابا أمريكيا نشطا يطلب الإذن بالكلام طوال الوقت..يتحدث أغلب الوقت..كان مصرا على أن يتولى كتابة التقرير بنفسه..يعين نفسه قائدا للقرار برغم أنف الآخرين..تصور هذا الشاب قد جاء من بلده خصيصا قاطعا ألاف الأميال ودافعا مئات الدولارات كي يحضر معنا هذا المؤتمر لاعبا دور السلفادور!
فى هذه النموذج ننسى تماما أسماءنا الحقيقية ونتسمى بأسماء بلادنا – أو بمعنى أدق البلاد التى نمثلها..هذه الفتاة هى "باكستان" وهذا الفتى هو "الكونغو"..من الجميل هنا أن ترى مندوب روندا أو السودان فتى أمريكيا بعينان خضراوتان وشعر أشقر، وممثل اليايان فتى أسود البشرة، بينما مندوب الولايات المتحدة فتاة مصرية، ولا يستبعد أن تجد مندوب مصر فتاة أمريكية شقراء..وداعا للعنصرية!
قد تغلب الجدية على المجلس الموقر بعض الوقت..أغلب الوقت..لكن لي بالضرورة كل الوقت.فى لحظات معينة يضجر السادة الدبلوماسيين ممثلى دول العالم من الحوار الدبلوماسى الممل ليبدأ الكلام الفارغ والتهييس..فى مجلسنا تحول النقاش فجأة من حقوق الإنسان وسيادة الدول على حدودها إلى أزمة الزواج فى بعض الدول، ووقف مندوب مصر يدعو السادة الأعضاء أن يتجهوا إلى مصر إذا أرادوا البحث عن زوجة مثالية، فطلب مندوب الكونغو الإذن بالكلام وقال نه يبدو واضحا الضجر على السادة الأعضاء ودعاهم لدرس لتعلم الرقص على الطريقة الأفريقية عقب انتهاء أعمال المؤتمر.
فى أوقات الراحة نتخلى عن الطابع الدبلوماسى التمثيلى لنتجاذب أطراف الحديث، لتكون فرصة مثالية لتتعرف على طلبة آخرين من جامعات أخرى يشاركونك نفس المجلس أو مجلس أخر، أو تتعرف على أعضاء آخرين جاءوا من بلاد العالم المختلفة كى يخوضوا هذه التجربة الدبلوماسية التمثيلية فى القاهرة.
تعجبنى محاولات كل عضو أن يتخذ من السياسة الخارجية للدولة التى يملها منطلقا له، فأمريكا دائما تحاول أن تفرض رأيا،والحلفاء لا يدخرون جهدا لتأييدها، لكن الأمر المختلف فى نماذج المحاكاة السياسية أنك تتخذ القرارات السياسية بسهولة دون كثير من القلق أو التوتر،لكن الأمر فى عالم الواقع قد يعنى حياة الملايين وقد يحدد مصير شعوبا بأكملها..فى هذه اللعبة تدرك جيدا كيف يتخذ السادة الدبلوماسيين قراراتهم دون أن يعيروا اهتماما كبيرا بالعدالة والديمقراطية والإنسانية..الكلمة الأولى والأخيرة لمصلحة دولتك وحلفائها..هذه هي السياسة!
يثير اعجابى الحماس الذي يعمل به بعض السادة المندوبين، كأنهم في مجلس أممى حقيقي، فتجد الواحد منهم قد اندمج تماما فى دور دولته، فممثل أمريكا يفرض رأيه ويعمل من أجل مصلحة دولته رغم أنف الجميع،وممثل انجلترا –أنا- ينحاز إلى أمريكا انحيازا أعمى، و ممثل اسرائيل يجادل ويعارض كل القوانين والأعراف الدولية –ليس فى مجلسنا لكنه حتما يفعل ذلك فى المجالس الأخرى!
كما أن رئيس كل مجلس يصر دائما على التزام الأعضاء بالقواعد والمعايير الدبلوماسية –فهو رغم كل شيء نموذج محاكاة حقيقى للأمم المتحدة، ولابد أن يمثل الجميع كأنهم فى أمم متحدة حقيقية..القرارات والتوصيات لابد أن تصاغ بذات الصيغة..المناقشات والمناظرات والتصويت بنفس الطريقة..الحوار دائما بلغة إنجليزية تختلف لهجاتها حسب متحدثيها..لمنها تبقى إنجليزية في النهاية!
على جانب المؤتمر كنت متحمسا أن أتحدث مع السادة المندوبين الأمريكيين لأعرف انطباعتهم عن مصر خلال الفترة القصيرة التى قضوها فيها..كان أحدهم الفتى المتحمس سكوت الذي جذب الأنظار بتمثيله الرائع لدولة السلفادور..سعدت بالتعرف عليه وأخبرني أنه طالب فى جامعة كلومبيا أشهر جامعات مدينة نيويورك،وقال أنه يأمل أن يأتي للدراسة فى القاهرة بعد تخرجه..كان منبهرا بمستوى النقاش فى المجلس وقال أنه أكثر من رائع!
الانطباع العام الذى حدثني عنه سكوت وغيره من الطلبة الأمريكيين بعد أيامهم القليلة فى القاهرة أن المدينة أثارت دهشتهم بضخامتها.."لم أتصور أنها أكبر من نيويورك سيتى"..هكذا قال لى سكوت..طبعا التلوث الشديد يثير ضيقهم وهو شىء لم يألفوه فى بلدهم..الزحام القاتل ونظام المرور حيث لا أحد يبالى بقوانين المرور أغلب الوقت.
وكان الطلبة مبهورين بكثرة المساجد وطرازاتها المعمارية..يسألون عن سعر البنزين هنا ويقارنونه بما لديهم فيجدون الفرق شاسعا حقا..أخبرهم أن "سعر لتر البنزين يعتبر باهظا الآن للمواطن المصري البسيط وأن الأسعار شهدت زيادات كبيرة خلال الأعوام الأخيرة".
طبعا لم يفوت الطلبة فرصة رؤية الأهرامات وهى كالعادة أول ما يبحث عنه السائح الأجنبي ليراه فى مصر..سألت سكوت عما إذا كان قد زار منطقة خان الخليلى والحسين، فقال لى طبعا رغم أن المنطقة شهدت حادثا إرهابيا قبل أسابيع قليلة..وأضاف:"أفضل ما تفعله لتهزم الإرهاب أن تقضى حياتك كما تريد."
فى فترة الغداء نكتشف أن طعام الغداء شاورمة و فول وطعمية من الشبراوى..يبدو أن منظمي الغداء نسوا أن معنا أجانب، أو ربما أرادوا أن يقدموا لهم تجربة مصرية خالصة..كانت إحدى الفتيات الأمريكيات تزاحم معنا على الطعام متساءلة عن ماهية هذه المأكولات..تساءلت عن ماهى الطعمية،فأخبرتها أنها ما يسمونها بالفلافل..تساءلت مندهشة:"فلافل! أعرف طبعا الفلافل..لماذا تسمونها طعمية إذن؟"
وكعادة نماذج المحاكاة لابد أن ينتهى اليوم بخروجة ..لابد من بعض المرح بعد الكثير من السياسة..فى أرابيلا التقينا من جديد..على أنغام المزمار الصعيدى تراقص السادة الدبلوماسيين بالملابس الرسمية..الكل قد بذل مجهودا كبيرا خلال الجلسات من العاشرة صباحا حتى السادسة مساء، وقد حان الوقت أخيرا لتفريغ كل هذا الكبت..فى هذه المناسبات يوجد لديك حلين لا أكثر..أن تتراجع عما يفعله هؤلاء "المجانين" وأنت تقف وحيدا متظاهرا بالجدية والحزم لتجلس مع نفسك تسمع الموسيقى الصاخبة وتراقب السادة الراقصون والراقصات تتذكر الحكمة التى أخبرها بك صديقك منذ عام –وهى الدافع رقم واحد الذى جعلك تدخل نموذج المحاكاة:" أحلى حاجة فى
MUN
هى البنات"..ولم يكذب صديقك خبرا!
الخيار الثانى أن تنسى كل شىء عن الدبلوماسية وصورتك المحترمة أمام الآخرين وأن تشارك الاخرين جنونهم..تدخل وسط حلقة الراقصين متمايلا على أنغام الموسيقى ناسيا أنك ترتدي البدلة الكاملة لترقص مع الراقصين وتغنى مع المغنيات، وربما يحالفك الحظ وتجد إحدى الفتيات قد اختارتك من دون الرجال جميعا لتشاركها الرقص..حينها –أرجوك- أنسى تماما أنك لا تجيد الرقص فعلا –فربما هى أيضا لا تجيده- وتوكل على الله..ربنا يسهل لك!
فى النهاية تكتشف أن أربعة أيام كاملة قد مرت عليك فى هذا المؤتمر دون أن تشعر بمرور الوقت..أربعة أيام مرهقة من العمل الدبلوماسى –التمثيلى – والمناقشات والمناظرات والاعتراضات وطلب الكلمة والتصويت والتنسيق مع الدول الحليفة والشجار مع الدول المعادية وصياغة القرارات..أربعة أيام تعلمت فيها الكثير من السياسة وتعرفت فيها على الكثير من الأصدقاء و -الأهم من كل هذا- الوقوع فى هوى الأمم المتحدة..بمعنى أدق نموذج محاكاة الأمم المتحدة..!
لكن هل يا ترى حللنا مشكلة الكونغو؟
No comments:
Post a Comment