Thursday, June 11, 2009

أوباما في القاهرة.. ما لم تروه على شاشات التليفزيون!


صباح الرابع من يونيو 2009..
اليوم الذي تنتظره القاهرة بفارغ الصبر منذ أعلن الرئيس الأمريكي أوباما توجيه خطابه إلى العالم الإسلامي من القاهرة.. اليوم الذي يترقبه أكثر من مليار ونصف المليار مسلم هم هدف أوباما في هذا الخطاب.. اليوم الذي تتحدث عنه كل وسائل الإعلام منذ أكثر من أسبوعين، وتعدنا بعده بمزيد من الثرثرة تناولا للخطاب وتحليلا وتفحيصا له.. الرابع من يونيو 2009 هذا اليوم لن ينساه التاريخ!

بالملابس الرسمية بدأت أستعد مع أصدقائي للتوجّه إلى جامعة القاهرة.. تركت الكاميرا؛ لأني لم أكن واثقاً في أن الأمن قد يسمح لي بالدخول بها، لم آخذ سوى هاتفي المحمول وتأكدت أنني لا أرتدي ولا أحمل أي شيء معدني.. بدت شوارع القاهرة خالية على غير العادة في هذه الساعة المبكرة -حوالي الساعة التاسعة صباحاً- ولاحظنا أن الحافلة قطعت الطريق بسلاسة وبساطة دون أن نتعطل لحظة على عكس ما توقعنا.

وأخيراً بدت قبة جامعة القاهرة الشهيرة في الأفق، وتوقفت الحافلة وهبطنا لنأخذ مكاننا في الصف الطويل الواقف في قلب الميدان أمام البوابة الرئيسية لجامعة القاهرة.. يبدو الميدان مغلقاً تماماً ولا تسمح لأي سيارات بدخوله، فيما يتوالى وصول الصحفيين والطلبة حاملي الدعوات الرسمية إلى الميدان..

ووقفنا في الصف ونحن نشعر بأننا نقف في "طابور العيش" منتظرين دورنا.. نتحرك ببطء شديد نحو البوابة الأمنية الأولى قبل بوابة جامعة القاهرة.. يُشهر كل منا بطاقته الشخصية ودعوته الخاصة، ليراها أحد رجال الأمن قبل أن يسمح له بعبور البوابة إلى البوابة التالية.. لاحظ معي أن الدعوات لا تخلو من الأخطاء الإملائية في أسماء حامليها.. كان اسمي صحيحاً على دعوتي باللغة الإنجليزية، لكن الاسم بالعربية فقد حول اسم جدي من "عبد المحسن" إلى "عادل".. صديقي "فادي" تحوّل اسمه إلى "سامي" أيضاً على دعوته.. وهكذا!

أمام مدخل قاعة الاحتفالات الكبرى يقف رجال الأمن مع موظفي السفارة الأمريكية ينظّمون دخول الحضور.. السيارات التي تحمل لافتات "هيئة دبلوماسية" تمر من حين لآخر لتمر خلال صفوف الطلبة الطويلة.. وبعد البوابة الأمنية الأخيرة يتفرّق الداخلون.. القاعة الرئيسية في الطابق الأول مخصصة لكبار رجال الدولة وممثلي الأحزاب السياسية والدبلوماسيين وفئات مختلفة ودبلوماسيين أجانب من كل دول العالم.. في الطابق الثاني يقف الصحفيون ومراسلو وكالات الأنباء العالمية بالإضافة إلى أساتذة الجامعات.. الطابق العلوي مخصص بالكامل للطلبة، وهو ما اتجهنا إليه وكان لايزال شبه خالٍ، كانت الساعة التاسعة والنصف صباحاً..

أكثر من ثلاث ساعات قضيناها على المقاعد الخشبية غير المريحة نتابع ما يجري في صالة الاحتفالات الكبرى في انتظار الرئيس أوباما على أنغام موسيقى عمر خيرت التي تعالت في القاعة.. البعض يتسلّى بالدردشة مع مجاوريه.. بالنوم قليلاً في وضع غير مريح إطلاقاً، بالنظر إلى سيقان الفتيات الجميلات اللاتي أتين لحضور خطاب أوباما بالميكروجيب!

يتوالى حضور السادة المهمين في القاعة، ويتواصل تدفق الطلبة إلى الطابق العلوي.. من حين لآخر يخرج أحد الحاضرين متسائلاً عن الحمّام، فيرشده أحد رجال الأمن إلى الطابق السفلي.. والحمامات في قاعة الاحتفالات الكبرى لجامعة القاهرة -للأسف- لا تختلف كثيراً عن أي حمامات لأي هيئة حكومية.. الحمامات ضيقة جداً لا يمكن أن تصفها بالنظافة.. السلالم السفلية المؤدية إليها ليست في قمة النظافة كما رأينا القاعة ذاتها.. يبدو أن السادة المسئولين صرفوا الملايين على تنظيف ما يراه أوباما فحسب وما تنقله كاميرات التليفزيون أما ما عدا ذلك فلا يهم.

في الطابق العلوي يجلس الطلبة يبحثون بعيونهم عن المشاهير بين الجالسين في القاعة السفلى.. ها هو ذا عادل إمام يقف في منتصف القاعة يتحدّث مع إحدى الحسناوات.. الصفوف الوسطى تحمل شيخ الأزهر والقساوسة ورجال الدين بعماماتهم البيضاء والسوداء..

وعند الثانية عشرة والنصف بدأ توافد المسئولين إلى القاعة الكبرى، ومعها تعالت همسات الجالسين حولي تحدد شخصياتهم: عمرو موسى، بطرس غالي، فاروق حسني، صفوت الشريف، أحمد فتحي سرور.. أغلب الوزراء يتوافدون ليحتلوا الصفين الأول والثاني، ورأينا جمال مبارك يقف في مقدمة القاعة يتحدث مع شخصين، فيما توالى دخول عدد من الصحفيين الأجانب ليقفوا في مواجهة مسرح القاعة مباشرة، وتدفق للقاعة رجال المخابرات الأمريكية بالملابس الرسمية، ووقف أحدهم يطلب من الحضور ترك سماعات أجهزة الترجمة على المقاعد عقب انتهاء الخطاب!
وجاء أحد الأمريكان يختبر الميكرفون الذي سيتحدث فيه أوباما بعد دقائق.. وتكرر الاختبار أكثر من أربع مرات حتى صارت الساعة الواحدة ظهراً واقتربت ساعة الصفر.. يلاحظ الكل الآن أن شبكة الاتصالات اللاسلكية قد سقطت ولم تعد أجهزة الموبايل قادرة على الاتصال أو الاستقبال.. إن اللحظات التاريخية على وشك البدء!

في الواحدة وعشر دقائق تماماً تعالت الهمسات بأن هيلاري كلينتون دخلت القاعة، ورأيناها تتقدم نحو الصف الأمامي ووقف أحمد فتحي سرور ليصافحها، قبل أن يدخل الرئيس الأمريكي القاعة من اليمين ويصعد بخطوات سريعة إلى المسرح ليقف أمام المنصة وسط عاصفة من التصفيق انتابت الجالسين، ووقفنا جميعا نحيي الرئيس الأمريكي الشاب الذي بدأ خطابه على الفور.

إن ما نراه أمامنا بعيوننا يراه مئات الملايين حول العالم الآن!

***

لم تمر الدقيقة الأولى من خطاب أوباما حتى سمعناه يلقي علينا التحية باللغة العربية "السلام عليكم"، فدوت القاعة كلها بالتصفيق الحاد، ثم واصل أوباما خطابه بنفس النبرة الواثقة عارضا نقاط الخطاب السبع مرتجلا خطابه دون أن ينظر لأى ورقة تلخص خطابه ودون أن يتوقف لحظة ليفكر في النقطة التالية، كأنه يحفظ خطابه عن ظهر قلب فعلا.. -لاحقا سنعرف أنه كان يقرأ الخطاب عبر شاشة من الكريستال السائل غير مرئية للجميع.

ها هو ذا أوباما الذي انتزع إعجابنا الشديد في أول خطاب له بعدما فاز بمنصب الرئاسة، فوقف أمام أكثر من مليوني أمريكي يشكر من صوت له ومن لم يصوت له بعد.. ها هو ذا أوباما الذي كان محور حديثي مرارا مع أصدقائي الأمريكان أيام ما كنت في أمريكا نراقب المرشح الأمريكي الأسمر وخطواته الوئيدة لحشد التأييد في الولايات الأمريكية المختلفة في منافسة شديدة مع هيلاري كلينتون، التي تجلس الآن أمامنا في الصف الأول تستمع معنا لخطاب أوباما في القاهرة.. هل تراها تتخيل نفسها الآن في مكانه لو كانت قد فازت بمقعد الرئاسة؟

ويمكن أن نقسم انطباعات الحضور داخل قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة ردا على خطاب أوباما وفقا للتصفيق الذي انطلق مرارا وتكرارا داخل القاعة، ولم يكن التصفيق في كل مرة نابعا من كل الحضور، إنما يتوقف حسب ما قاله أوباما ومدى استحسان المستمع له.. الحضور لم يصفقوا حينما أكد أوباما حق إسرائيل في الوجود، لكنهم صفقوا بحرارة حينما عارض استمرار بناء المستوطنات الإسرائيلية.. صمتوا جميعا حينما تحدث عن 11 سبتمبر وحرب أفغانستان لكنهم صفقوا بشدة عن حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة!

استشهادات أوباما بالآيات القرآنية كانت تملأ القاعة بالتصفيق الحار، التي كانت تبدأ قبل أن يكمل أوباما عبارته، وكذلك حديثه الطويل في بدايات خطابه عن انتمائه لأسرة مسلمة وشأن المسلمين الأمريكان في بلاده ومدى ارتباطهم بالتاريخ الأمريكي.. حينما تحدث عن القدس وذكر مكانتها التاريخية في الأديان السماوية كمكان صلى فيه موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعا السلام في قصة الإسراء -كما قال بالحرف الواحد.. حينها اشتعلت القاعة بالتصفيق الحار جدا!

في أحيان أخرى كان الصمت التام يخيم على القاعة.. الحديث عن حرب أفغانستان ومبرراتها.. حرب العراق والتأكيد على أن الشعب العراقي اليوم أفضل كثيرا عما كان عليه في عهد صدام حسين.. التطرق للعلاقات التاريخية بين إسرائيل وأمريكا.. التأكيد أن الوطن اليهودي حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها.. الهولوكوست والستة مليون يهودي الذين قُتلوا أكثر من تعداد إسرائيل كلها اليوم.. رفض المقاومة الفلسطينية القائمة على العنف -للمرة الأولى يصف رئيس أمريكي المقاومة بالعنف وليس بالإرهاب..
حينما بدأ أوباما حديثه عن الديمقراطية خيم الصمت التام على القاعة السفلى فيما تعالى التصفيق في القاعة العليا.. ثم اتجه إلى حرية الأديان وذكر بالاسم الأقلية المارونية في لبنان والأقباط في مصر، وحينها تعالى تصفيق متواضع جدا -لا شك أن أغلبه من الأقباط الحاضرين في القاعة.. نفس الشيء تكرر عندما انتقل إلى حقوق المرأة..

ولا شك أن أوباما استطاع تحريك خيال المئات الجالسين في القاعة ومئات الملايين حول العالم وهو يرسم لنا ملامح العالم الجديد الذي يسعى لتشكيله.. عالم لا يهدد فيه المتطرفون الآخرين، وتعود فيه القوات الأمريكية إلى بلادها.. عالم يعيش فيه الإسرائيليون والفلسطينيون آمنين كلّ في دولته.. عالم تستخدم فيه الطاقة النووية للأغراض السلمية.. عالم تخدم فيها الحكومات حقوق مواطنيها وتحترم أطفالها.. "هذا هو العالم الذي نسعى إليه، لكننا نستطيع تحقيقه معا"!.

وكما رسم لنا أوباما الحلم الأمريكي الجديد، قدم لنا القواعد الأمريكية الجديدة بمنتهى الحكمة.. "من الأسهل أن تبدأ حربا عن أن تنهيها".. "أسهل أن تلوم الآخرين بدلا من تنظر للإمام".. "لمَ ننظر لما يختلف فيه الآخرون عنا بدلا من النظر لما يجمعنا سويا".. في كل جملة من هذه الجمل كان بوسع الحاضرين أن يملأوا القاعة تصفيقا إلى المساء لكنهم فضّلوا أن يستمعوا إلى الجملة التالية.

وأنت جالس تستمع إلى هذا الخطاب الدقيق المنظّم تشعر بأنك تشاهد فيلما وثائقيا رائعا يستعرض نقاط الخلاف بين الأمريكان والمسلمين ببراعة ودقة شديدة عارضا وجهتي النظر المختلفتين.. أفغانستان.. العراق.. أحداث 11 سبتمبر.. التعذيب في السجون الأمريكية.. معتقل جوانتانامو.. المقاومة الفلسطينية.. الديمقراطية.. حقوق المرأة.. التنمية الاقتصادية.. كل ذلك في ترتيب منظم بديع يحسن أوباما اختيار الكلمات والتعبيرات حتى أنه ابتعد تماما عن المفردات التي كانت ميزة خطابات جورج بوش وأهمها "الإرهاب"، فلم يذكر أوباما الكلمة مرة واحدة، ولم يربط بين التطرف والإسلام إطلاقا، كلها عوامل دفعت أحد الجالسين في القاعة -ذكرت الدستور أنه الفنان شريف منير- أن يهتف معبرا عن مشاعر المئات من الجالسين قائلا: "بنحبك يا أوباما"، ورد أوباما: "شكرا لك"!

وانتهى خطاب أوباما بعبارة "وعليكم السلام" باللغة الإنجليزية هذه المرة، ليقف كل الحضور يحيون الرئيس الأمريكي وتعالت الهتافات باسمه وسط عاصفة من التصفيق ورفع العشرات أياديهم يلوحون لأوباما فبادلهم أوباما السلام مرات عديدة حتى اتجه إلى يسار المسرح واختفى عن الأنظار.

***

على عكس ما توقعت تم السماح للكل بالتحرك من مقعده وترك القاعة.. صحيح أن الزحام الشديد جعلنا نقف بلا تحرك فوق السلالم، قبل أن نصل للطابق الأول حيث يتدفق كبار رجال الدولة من القاعة.. وشاهدنا جميعا الوزراء والدبلوماسيين والفنانين يحتكون بنا ويمشون جوارنا.. فور خروج عادل إمام مع يسرا من القاعة تزاحم الطلبة حوله وحاصروه تماما وطلبوا توقيعاته على دعوات خطاب أوباما وهي الورقة الوحيدة التي يحملونها.. تخترق مراسلة المحور الحصار حول عادل إمام وتسأله عما لم يتطرق إليه أوباما في حديثه فيرد إمام: "هو اتكلم في كل شيء بصراحة" فتصرّ المراسلة وتسأل عن الموضوع الذي نسي أوباما تناوله فيرد إمام: "قضية سوزان تميم"!.

وزير الثقافة يمضي مسرعا من القاعة، فيستوقفه بعض الطلبة ويصافحونه ويقول له أحدهم: "هتشرفنا إن شاء الله في اليونسكو"، فيبتسم فاروق حسني ويشكره.

عمرو موسى يحاول الفرار من كاميرات الصحفيين، فيستوقفه مراسل قناة العربية عند سيارته، فيدلي برأيه على عجل أن خطاب أوباما متوازن، ثم يقفز إلى سيارته وينطلق به سائقه الخاص.

أيمن نور وحده وقف يتحدث طويلا مع المراسلين على سلالم مدخل قاعة الاحتفالات الكبرى، ويتبادل حديثا آخر مع مؤيديه ومع الطلبة من حوله حتى أنه أملى رقم هاتفه الخاص للمحيطين به عندما طلبوه.

عندما انفضّ المولد واختفى السياسيون بدأت مغادرة جامعة القاهرة.. في الميدان المواجه للجامعة كان رجال الأمن ينتشرون بغزارة، وقد أغلقت الطرق تماما.. عند المسلة يقف خمس من الأمريكيات يحملن لافتات تطالب بإنهاء حصار غزة، وزعيمتهن تمسك ميكروفونا تطالب فيه الرئيس الأمريكي بزيارة غزة.. اقتربت منها وتحدثت معها فعرفت أنها من منظمة سلام أمريكية تدعى كود بينك، وأنها أتت على التو من غزة.. سألتها عما إذا كانت قد حصلت على تصريح من الجهات الأمنية فقالت إن الجهات رفضت منحها هذا التصريح.. وبرغم ذلك لم يقترب منها أحد رجال الأمن ليمنعها مما تفعله.. هل لو كان مكانها بعض المصريين كان الأمر مختلفا؟

هنا حان وقت العودة.. كما هو واضح المنطقة مغلقة تماما ولا يوجد أدنى أثر لأي نوع من وسائل الانتقال.. اضطررت للسير مع صديقي طريقا طويلا حتى انتهى الحصار ورأينا التاكسيات.. أخذنا التاكسي من الجيزة في طريقه للزمالك، لكننا ما إن عبرنا كوبري قصر النيل حتى فوجئنا بغلق الطرق المؤدية لقلب الزمالك تماما.. اضطر التاكسي لتركنا في عز الحر، ونصحنا السائق بأخذ الطرق مشيا.. "هما لو عايزين يقفلوا الزمالك ماحدش هيعرف يدخلها".

فشلت كل الطرق في إقناع أي سائق تاكسي آخر باكتشاف أي طريق آخر إلى الزمالك، حتى فوجئنا بفتح الشوارع فجأة.. ركبنا سيارة تاكسي ومضت بنا جوار نادي الجزيرة حيث لاحظنا صفا طويلا من عساكر الأمن المركزي على امتداد سوره.. وفي السماء رأينا طائرة هليكوبتر تحلق مبتعدة مسرعة.. يبدو أن أوباما قد غادر نادي الجزيرة منذ لحظات في طريقه إلى الأهرامات.. مع السلامة يا أوباما!

المقال على بص وطل:

http://www.boswtol.com/5gadd/nsahsah_251_036.html

1 comment:

  1. i like the way u are viewing the event ,but i'd like to know ur opinion about his speech and the impression u and ur colleagues had about it

    thanks

    ReplyDelete