Thursday, April 9, 2009

بص وطل: بيروت بيروت لـ صنع الله إبراهيم


وحده "صنع الله إبراهيم" هو القادر على أن يجمع بين الرواية والفيلم السينمائي في كتاب واحد.. وحده يستطيع أن يحشد كل هذه التفاصيل بكل هذه الدقة.. هذا هو صنع الله إبراهيم كما رأينا أسلوبه مميز في رواياته "اللجنة" و"نجمة أغسطس" و"القانون الفرنسي".

تعد رواية "بيروت بيروت" من أروع ما كتب صنع الله إبراهيم، حيث تؤرخ للحرب الأهلية في لبنان، إذ تدور أحداثها بالكامل في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، حيث البطل تائه بين الأطراف المتنازعة، لا يعرف لماذا يقاتلون بعضهم البعض؟! غارق هو في البحث عن هدفه الشخصي -إيجاد ناشر لكتابه- لكن ظروف الحرب تفرض نفسها عليه رغم أنه لا يهتم كثيرا بها.

والقصة أن البطل -راوي الأحداث- يترك القاهرة إلى بيروت في وسط أجواء الحرب الأهلية اللبنانية؛ ليبحث عن ناشر لروايته التي لا تخلو من نقد الأنظمة السياسية العربية جميعا، ويقيم عند صديق له في بيروت، يتعرّف من خلاله على مخرجة لبنانية تطلب منه أن يكتب لها سيناريو فيلمها الوثائقي، وبهذا يجد البطل عملا يقضي فيه أيامه في بيروت.

يبدو من الرواية وَلَع صنع الله إبراهيم الشديد ببيروت، كما أنه يعرف فنادقها وشوارعها وأحياءها جيدا، من خلال الوصف التفصيلي لتحركات البطل وانتقالاته بين أحياء بيروت (الشرقية والغربية)، كما لو كان الكاتب قد قام بهذه الرحلة إلى لبنان بنفسه وعاد يكتب تفاصيلها في رواية.

كالعادة يتناول الكاتب السياسة والجنس والدين -الثلاثي الخطير- بجرأته المعهودة.. أما السياسة فالرواية كلها تقدِّم لنا لمحة من الحرب الأهلية اللبنانية، العداء الطائفي بين أصحاب الأديان المختلفة في لبنان، المعاداة الظاهرة لمعاهدة السلام مع إسرائيل، تناول الأنظمة العربية جميعها بالنقد بمنتهى الجرأة، ففي مقطع من الرواية، تخاطب الناشرة اللبنانية البطل قائلة: "أنت لم تترك نظاماً واحداً من الأنظمة العربية دون تعريض".

الجنس جزء لا يتجزأ من روايات صنع الله إبراهيم، ومن قرأوا اللجنة يعرفون جرأته الشديدة في الوصف، علاقات البطل الجنسية سمة مهمة من سمات البطل، إذ تتعدد علاقاته النسائية خلال أحداث الرواية، وفي النهاية يكتشف أن الفتاة التي كان على علاقة بها ليست سوية تماما، عندما تطلب منه صديقتها أن يقطع علاقته بها؛ لأن هناك "علاقة خاصة جدا" تربط بين الصديقة وعشيقته!

الدين هو السبب الرئيسي الذي من أجله تدور الحرب الأهلية، وهو السبب الذي يُختطف بسببه البطل، عندما يتعرّض البطل للاختطاف على يد جماعة مجهولة، ويجري معه تحقيق غريب، يسألونه فيه عن ديانته، فيرفض الإجابة، ويدور الحوار الآتي:
- "ألن تذكر لي ديانتك؟
- وما علاقة ديانتي بالأمر؟
- الدين هو عنوان الشخص.. هويته.. فهو الذي ينظم علاقته بخالقه.
- إذن لا أهمية لتحديده.. كل واحد ينظم علاقته بخالقه وفقا لدينه، وفيما يتعلق بي فإن الأديان كلها عندي سواء."

كالعادة يحشد صنع الله إبراهيم عددا من الأخبار والوثائق؛ ليضع القارئ على خلفية من الأحداث التاريخية التي تدور خلالها أحداث الرواية.. قصاصات الصحف.. نشرات الأخبار.. تفاصيل تاريخية تضع القارئ على خلفية لا بأس بها بأحداث الحرب الأهلية اللبنانية.

الشيء الذي لم أحبه في الرواية -وقد تحبه أنت عزيزي القارئ- هو الوصف التفصيلي لسيناريو الفيلم الوثائقي الذي يُكلف بطل الرواية بكتابة السيناريو له، من حين لآخر يفرد إبراهيم عشرات الصفحات من كتابه؛ ليقدِّم لنا بأسلوب سينمائي مُمِل تفاصيل مشاهد الفيلم مع ملاحظات البطل عليها، وهو ما يجعل القارئ ينفصل تماما عن جو الرواية ويدخل عالما آخر هو عالم الأفلام الوثائقية، ولا يمنع هذا الراوي أن يبدي تعليقاته وآراءه من حين لآخر: "كان لدي تصور ضبابي في السابق عن الحرب الأهلية اللبنانية، مؤداه أنها حرب بين التقدميين والرجعيين يحركها الاستعمار، وأن غالبية التقدميين من المسلمين، كما أن غالبية الرجعيين من المسيحيين، لكني أدركت الآن أن الأمر أعمق من ذلك بكثير..."

في المطار عند وصوله لبيروت يسأل ضابط الجمارك البطل:
- بيروت وجهتك أم ذاهب إلى مكان آخر؟
- لا، بيروت.
- الشرقية أم الغربية؟
"أوشكت أن أجيب تلقائيا بأنها الشرقية، ثم تذكرت أن بيروت هي المكان الوحيد في عالم اليوم الذي تنقلب فيه المدلولات السياسية للأوضاع الجغرافية".

تبقى "بيروت بيروت" من أمتع ما قرأته لصنع الله إبراهيم، وهي تجمع بين السمات العامة التي تميز أسلوبه الفريد، مما يجعلها أفضل ما يمكن قراءته، إذا قررت أن تدخل عالم صنع الله إبراهيم شديد الخصوصية.

No comments:

Post a Comment